سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«الحياة الجميلة»

كانت «واشنطن بوست» صحيفة صغيرة ومحدودة و«على الهامش» مثل المدينة الصادرة فيها آنذاك، لم تكن تنافس أحدًا، لا صحف العاصمة ولا صحف البلاد. ولا تحلم بذلك ولا تفكر فيه. ذات يوم احتاجت الناشرة كاتي غراهام إلى رئيس تحرير جديد، فاستدعت إلى المنصب صحافيًا يعمل في مطبوعتها الأخرى، «نيوزويك»، يدعى بن برادلي. صحافي عادي في المستويات الأميركية، وخبرة عادية، وأسلوب في الكتابة عادي، أو ما دون ذلك. بعض كتاباته كانت تشبه مركّبي الجمل ومصصفي الكلمات في الصحف العربية. و«مصصفي الكلمات» تعبير ليس لي، بل لسعيد فريحة. والصحافي الكبير كان مغرمًا بالنساء ومولهًا بالكلمات. يحب كما يكتب، ويكتب كما يعشق، ويطرب للكلمة المكتوبة مثلما يطرب للهمسة اللعوبة، ويخلط الاثنين ويجعلهما إكسير الحياة، في الليل والنهار وما بينهما. وفي الوقت نفسه، كان سريع الانفعال، سريع الرضا، بسبب «السكري». وكان إذا شعر أن أحدًا ينافسه على رفقة امرأة، ثار وغضب، ثم لا يلبث أن يرضى. أما إذا قرأ لأحد محرريه، أو كتّابه، رصفًا من الكلمات الفارغة وكوم التبن، فيقاطع التبان إلى الأبد ولو أبقى عليه في الدار. وكان يطلق على هذا النوع «حلاّق نسواني»، أو مصفف شعر: «خصلة من هنا وخصلة من هناك وصبغة مكشوفة».
أدرك برادلي أن أهميته في قدراته الصناعية ومعرفة الطاقات الشابة ودراسة أمزجة القراء. وقرر أن يخيف سياسيي العاصمة، لا أن يخافهم. فهم ضُعفاء خلف أقنعة عطوبة. وعندما وضع يده على فضيحة «ووترغيت» شعر أن هذه معركة الشجاعة الوطنية، فأقدم على خوضها. ومنذ ذلك اليوم أصبحت «واشنطن بوست» منافسة «نيويورك تايمز» أولى صحف أميركا.
يروي برادلي في مذكراته «الحياة الجميلة» قصة من قصص الصناعة الصحافية التي تصلح للدرس في أزمة الحبر والورق الحالية، التي لم تنجُ منها «البوست». ومن خلال رواياته المليئة بالخبريات والمسليات والآراء في الزملاء، يتعرف أهل المهنة، من أمثالنا، إلى وصف مهمة رئاسة التحرير. وهي عمل شاق وحساس وعقوق. ولكن في مهنة هذا جمالها، وفقًا للعنوان الذي اختاره برادلي.