نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

الثوابت حتى إشعار آخر

عندما تنعدم الإنجازات السياسية، وتنتكس محاولات التقدم في عملية التسوية، يلوذ الفلسطينيون بمصطلح نحتوه طيلة مراحل كفاحهم المرير، وهو «الثوابت». فإن أسفرت معركة عسكرية عن خسارة ساحة أو ساحات، فالتبرير الوحيد لهذه الخسارة هو «الثوابت»، وإن أخفقت عملية سياسية كان عليها رهان كبير، فالإخفاق حدث من أجل «الثوابت»، ولا شك أن لهذه المفردة العجيبة أسبابا موضوعية تدعو دائما لاستخدامها واللجوء إليها؛ ذلك أن الفلسطيني الذي يعيش تناقضا واضحا بين حقه وعجزه بالقياس لقدرات خصومه، يحتاج إلى مسوّغ منطقي لمواصلة محاولاته وعدم التسليم بخلاصات الحسابات المادية التي هي غالبا في غير صالحه وصالح نضاله الطويل والمكلف وقليل الجدوى.
لقد وصل الفلسطينيون إلى البيت الأبيض، وكان يفترض أن هذا الوصول يختصر الطريق نحو الهدف الذي هو الحل السياسي المعقول لقضيتهم، وفي أكثر من مناسبة كان الراحل ياسر عرفات يذكر شعبه بأنه أكثر زعيم عربي زار البيت الأبيض، غير أن خلاصات هذه الزيارات الكثيرة، إن لم تكن صفرا فقد كانت ما دون الصفر، وها هو محمود عباس يرتاد البيت الأبيض، وربما أيضا أكثر من أي رئيس عربي، وفي كل زيارة لا بد أن يكون هناك أمل ما بتقدم ما باتجاه ما.
ما حظي به عباس في زيارته الأخيرة تلقيه موعظة حسنة من الرئيس أوباما يدعوه فيها إلى المجازفة من أجل السلام، وآمل أنا شخصيا، كاتب هذه السطور، أن يكون هنالك شيء ما تحت الطاولة غير موعظة المجازفة.
وبينما يستقبل الفلسطينيون رئيسهم باحتفالات شعبية عنوانها إنقاذ «الثوابت» والتصدي للضغوط، فهنالك ما يصدم روحهم ويعكر صفو أمنياتهم، والذي يتولى هذا الجانب من المأساة هم الإسرائيليون الذين بالغوا خلال هذه الفترة بالقتل دون سبب، وطرح عطاءات الاستيطان دون ضوابط، وحتى القطرة التي حصل عليها الفلسطينيون لقاء عودتهم لمائدة المفاوضات، تهدد إسرائيل بمصادرتها، عبر شروط تعجيزية تطرحها حكومتهم، لإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى.
إن واقعا مرا بكل أسف مفروض على الفلسطينيين، فإلى جانب تبدد العمق التقليدي لهم في زمن الربيع العربي، فإن عمقهم الذاتي يتبدد عبر انقساماتهم وتأثير صراع الأجندات عليهم. إنهم الآن يواجهون الوضع الأصعب في تاريخهم، وإذا ما فشل كيري بصورة نهائية وتبددت الآمال الضئيلة أصلا، ليجدوا أنفسهم أمام حتمية الذهاب إلى خيارات جديدة، فإن استمرار وضعهم الراهن الرازح تحت وطأة الانقسامات والأزمات المتوالدة، لن يكون بالتأكيد قادرا على تلبية الحدود الدنيا من متطلبات الخيارات الجديدة، ولنفترض أن مركزها هو إدارة الظهر للمفاوضات، والذهاب نحو الأمم المتحدة.
بعد انتهاء الاحتفالات لا بد أن يبدأ عباس ورشة عمل داخلية لمعالجة الوضع الداخلي الفلسطيني قبل الذهاب إلى أي خيار آخر، فإن وجدت معجزة تنقذ مبادرة كيري وتمنع عنها التآكل والتلاشي، فهذه المعجزة لو حدثت في زمن لا معجزات فيه، فلن تكون قادرة على الإنقاذ دون وضع داخلي سليم ولو بالحدود الدنيا، وإن أدار السيد كيري ظهره ممارسا انسحابا تدريجيا من الأمل الكبير الذي بدأ به عمله، فما يترتب على هذا الانسحاب يحتاج إلى وضع فلسطيني داخلي غير هذا الوضع، وحتى الثوابت التي هي الملاذ الأخير لتفسير الخلاصات الغامضة أو غير المرضية، فلا مصداقية لها دون وضع داخلي يقوى على حمل الادعاء بخدمتها.