غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

كم يساوي الكاتب في العالم العربي؟!

رأيت جورج طرابيشي مع مجموعة من الشباب، وهم يشتبكون بالأيدي مع تظاهرة صغيرة أمام مبنى البلدية في دمشق، ضمت شيوعيين. وأكرادًا. و«إخوانًا» جمعهم العداء لمصر. ولجمال عبد الناصر. وللوحدة العربية. وكانت دمشق في ذلك اليوم من خريف سبتمبر (أيلول) 1961، تعيش على إيقاع البلاغات الانقلابية المتناقضة. بلاغ مع الوحدة. وبلاغ ضدها.
أخيرًا، غلب الانفصال أول وحدة قومية في تاريخ العرب الحديث. ولم أعد أرى زميلنا الشاب الحلبي الجديد جورج في صحيفة «الوحدة». وغاب الوحدويون. ثم انتصب تمثال لحافظ الأسد من الحجر البركاني الأشهب، فكان رمزًا للانفصال، في الساحة التي جرى فيها الاشتباك.
مرت سنون. وبرز زميلنا جورج كاتبًا. ومفكرًا. ومثقفًا. لكنه ظل في ذاكرتي ذلك الشاب العربي الغيور على الوحدة الذي أدرك ما لم يدركه زعماء حزبه الثلاثة (عفلق. والبيطار. والحوراني). أدرك ما كان جيلي يدرك. فقد كان الانفصال كارثة قومية. كانت سوريا وما زالت لا تعرف كيف تحكم نفسها. أو كيف تقرر مصيرها وصالحها.
بل أدرك جورج ما لم يدركه الرئيس المصري! فقد رفض عبد الناصر العودة إلى الوحدة، بعدما سرح ضباط الانقلاب زميليهم عبد الكريم النحلاوي وحيدر الكزبري. وعبأوا الرئيس ناظم القدسي في مصفحة عسكرية. وأودعوه سجن المزة العسكري. وذهبوا إلى عبد الناصر في القاهرة. نادمين. متوسلين استعادة الحلم القومي. فقد أدركوا هم أيضًا مدى الكارثة التي أوقعوا بلدهم بها.
توالت الكوارث المتوقعة على سوريا: انقلاب الانفصال (1961). انقلاب البعث (1963). انقلاب البعث الطائفي (1966). هزيمة النكسة وتسليم الجولان لإسرائيل (1967). انقلاب البعث العائلي (1970). وإذا بـ«الأب» يبيع إيران عروبة بلده سوريا. وإذا بالابن يرتكب مجازر إبادة شعبه وتشريده.
في الانتفاضة، فَرّطت المعارضات السياسية بعروبة سوريا. ووحدة ترابها. فتنازعتها بمساعدة النظام الطائفي التنظيمات «الداعشية» و«القاعدية» و«المعتدلة». وتناوشتها الدول الكبرى. فراحت تبيعها سلعًا فيدرالية. وتكافئ الأكراد الانفصاليين بفيدرالية مجانية. نسيت هذه الدول ما حدث في العشرينات من القرن الماضي للدويلات الفيدرالية التي صنعتها دولة الانتداب. فقد أجهز عليها السوريون. واستعادوا وحدتهم الوطنية بوعيهم العربي.
ربما المصادفة خير من ألف ميعاد. ذات يوم بعد 25 سنة، التقيت فجأة جورج طرابيشي في حفل دبلوماسي في باريس. وكنت قد قرأت أنه جاء هو والصديق الناقد محيي الدين صبحي ليشاركا في تحرير مجلة «الوحدة» الثقافية التي أصدرها معمر القذافي في العاصمة الفرنسية. ثم ضنَّ عليها بالمال. فنقلها للصدور في المغرب. ثم أوقفها في إحدى نزواته «الثورية».
كانت صداقتي قوية مع الناقد محيي الدين صبحي، منذ أيام الدراسة الثانوية. وفي غرابة أطواره، ترك مزرعة أبيه في حي الصالحية الذي كان ضاحية دمشقية، ليكمل دراسته الجامعية، بما في ذلك الماجستير باللغة الإنجليزية من الجامعة الأميركية في بيروت. ليتمكن من متابعة النقد الأدبي العالمي. وليصدر كتبًا وضعته في صدارة نقاد الأدب العربي.
لم أسأل جورج طرابيشي عن معركته الثقافية/ السياسية مع الموسوعي المغربي عابد الجابري الذي درس في جامعة دمشق. سألته سؤالاً غريبًا. كم يبلغ دخله من كتبه التي بلغت آنذاك 35 كتابًا (عاونته زوجته هنرييت عبودي في ترجمة بعضها). تنهد جورج. قال لي بصوت آسف وهو يعطّش، كعادته، «الجيم» بلهجته الحلبية: «لم يتجاوز دخلي في العام الماضي 1035 دولارًا من دار النشر التي أتعامل معها».
كان جورج طرابيشي كاتبًا ومؤلفًا مقروءًا. لكن لم يستطع أن يعيش من دخل كتبه. ففي العالم العربي، يستطيع كتاب الفقه «الداعشي» أو «القاعدي» أن يمر بلا استئذان. لكن الكتاب السياسي. أو الثقافي، فعليه أن يحظى بشرف المثول أمام مؤسسات النشر. والتوزيع. والرقابة، باستثناء سوريا. فالرقابة على الكتاب يتولاها «اتحاد» كتاب السلطة، في نظام بشار المسؤول عن إسكات 300 ألف إنسان سوري تحت التراب. فمن أين للكاتب أن يتنفس فوق التراب؟
في عالم عربي يضم 400 مليون إنسان، يتراوح عدد النسخ المطبوعة للكتاب السياسي أو الثقافي، بين ألف وثلاثة آلاف نسخة! ولا يعيش «بفضل» تدخل المؤسسات الثلاث المذكورة سوى أربعة. أو خمسة كتّاب ومؤلفين فقط من دخلهم الفكري. ومن الطرافة، أن الطرابيشي كان كلما أمعن في نقد خصمه، زاد دخل وتوزيع الجابري. لذلك لم يكن الجابري يحفل كثيرًا بالرد على جورج الذي كان يعترف بأن اسمه الأجنبي محرج له. أما محيي الدين عجان، فقد استغنى عن اسم أسرته الذي لا علاقة له بالأدب. واكتفى فقط باسم أبيه «صبحي».
ولعل ما عزّى وخفف عن جورج وأدونيس أن الهجوم عليهما لم يصل إلى قسوة الهجوم على المفكر نصر حامد أبو زيد. فقد نغّص عليه خصومه المتأسلمون حياته. طردوه من جامعته. طلقوه من زوجته. أجبروه على مغادرة مصر. عندما غالبه الحنين، عاد متسللاً. حاملاً معه الداء الذي أودى بحياته.
ولعل الكاتب الوحيد الذي يعيش في بحبوحة من دخل رواياته هو جرجي زيدان الجديد، الروائي أمين معلوف الذي كتب بالفرنسية، فوجد دور النشر والتوزيع في الغرب التي تحترم الكاتب. أما والده الصحافي الكبير رشدي المعلوف، فقد اضطر إلى العمل في أخريات حياته بمجلة أسبوعية عربية باريسية، ليسد رمقه هربًا من الحرب الأهلية في لبنان.
لم يقطع جورج طرابيشي، في كل مراحل عمره الصاخبة، صلته بدمشق. لكن لم يعد إليها. بقي في باريس. ينعم بالحرية والديمقراطية. ثم صمت مذهولاً، عندما رأى النظام يقتل شعبه. وبعدما استولت التنظيمات المتأسلمة، على انتفاضة شعب حالم بالحرية. وحتى معركته الثقافية الكبرى بين العقلانية الفكرية والعقلانية الإيمانية توقف عنها. فقد سبقت وفاة عابد الجابري وفاته.
أما الناقد محيي الدين صبحي رحمه الله، فقد عاد إلى دمشق بعد مغامرة عاطفية فاشلة في باريس، خطفت منه «تحويشة» العمر. عاد ليعاود الكتابة في «تشرين» الحكومية، مشترطًا أن يسمح له نظام بشار بأن يغمس قدميه بسطل ماء دافئ يخبئه تحت مكتبه، وهو يكتب موضوعًا حارًا عن الحرية، سوف تمنع نشره رقابة كتاب السلطة.
وأما أنا فما زلت أعد أيامي في منفاي الباريسي لعلي أستكمل سنتي الأربعين فيها، واقفًا على عتبة سفارات العرب، متوسلاً جواز سفر يقيني مشقة الترحيل. فقد نسيت آسفًا أن أحصل على الجنسية الفرنسية.