نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

مرحلة ما تحت أوسلو

لم أكن أتخيل أن الانحدار في محتوى المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية وصل إلى الدرك الذي وصل إليه خلال المحادثات السرية التي جرت والتي وصفها رئيس الأركان الإسرائيلي آيزنكوت بالأمنية وغير السياسية.
الفلسطينيون على أي مستوى لا يملكون أي مسوّغ للموافقة على الطرح الإسرائيلي، والأخبار التي نُشرت - والمصدر دائمًا هو الصحافة الإسرائيلية - تشير إلى رفض الفلسطينيين للطروحات الإسرائيلية بالفعل، فمن يقبل صيغة احتلال بالتراضي؟ ومقابل هذه الصيغة تقوم السلطة بإنجاز المهمات الأمنية الإسرائيلية، إضافة إلى إنهاء التحريض، وترجمة ذلك ألا تضطر إسرائيل إلى غلق إذاعة أو محطة تلفزيون محلية، لأن الاحتلال بالتراضي يلقي هذه المهمة على عاتق السلطة.
الحديث هنا لا يدور حول الأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1967 جميعًا، فتلك مسألة قد يُفتح الحوار حولها بعد عشر سنوات على الأقل، لأن الحديث يدور فعلاً عما صُنِّف بالمناطق «أ» أي المدن الرئيسية في الضفة وبعض القرى المحيطة بها ومساحتها تقل عن خُمس مساحة الضفة، وإذا ما قارنّا بين هذه المطالب الإسرائيلية، وبين ما تم التفاوض عليه قبل عقدين من الزمن، فإننا نكتشف دون تدقيق مرهق أننا وُضِعنا تحت خط غزة أريحا طيبة الذكر، لنتحدث عن أريحا تحت عنوان ما يحق لجيش الدفاع الإسرائيلي أن يفعل فيها وما يتوجب على السلطة أن تؤديه لإرضاء الطرف الآخر، إنه نزولٌ إلى سرداب مظلم، ولم تحلم إسرائيل يومًا أن تصل الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، فما أحلى أيام أوسلو الأولى حين كان جندي إسرائيلي يدخل أريحا بالخطأ فيستنفر العالم كله لإخراجه وتسليمه إلى قيادته، ولمن يذكر فقد حدث أمر كهذا حين اقتحم ضابط إسرائيلي بدباباته بلدة بيت حانون في قطاع غزة فصدر له الأمر من البنتاغون بمغادرة المكان ونفّذ الأمر خلال ساعة.
حين حدثت هذه الأمور تفاءلنا بأن الواحد في المائة الذي انسحبت منه إسرائيل في بدايات تطبيق اتفاقات أوسلو سيوفر لنا خلال خمس سنوات انسحابًا مماثلاً من كل أنحاء الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، ويفتح مفاوضات بناءة حول ما سمي في حينه بقضايا الوضع الدائم، وهي الحدود والقدس والاستيطان واللاجئون والمياه.
كان التفاؤل مبررًا في حينه ومعززًا بطريقة تنفيذ الواحد في المائة التي تدرجت واتسعت إلى ما وصلت إليه هذه الأيام ولو على الخرائط.
ووفق السيناريو الإسرائيلي الذي أعلن عبر الصحافة، فإن الجيش الإسرائيلي مع كل ما لدينا من حسن نية وسذاجة يمكن أن ينجز انسحابًا من أرض الدولة الفلسطينية خلال خمسين سنة.
لم ولن يقبل الفلسطينيون قهرًا وذلاً كهذا، ولِمَ يقبلون؟ ففي فلسفة التنازل التي اعتمدت في أوسلو وحتى قبل ذلك كان هناك إغراء قوي لمبادلة التنازل عن شيء لمصلحة الحصول على شيء آخر، وكان التنازل مبررًا لأن العالم فرضه على الفلسطينيين، «فإما أن تتنازلوا عن حقكم التاريخي في فلسطين لتحصلوا على الحرية والاستقلال على الأراضي التي احتلت في عام 1967، وإما أن تظلوا إلى الأبد خارج المعادلة الدولية وخارج ما يسمى بالحلول الواقعية».
أما الآن فلم تعد هذه المعادلة قائمة إلا في التصريحات وعلى ورق البيانات وفي نفوس الفلسطينيين المغلوبين على أمرهم، وبهذه الفلسفة سوقت أوسلو كوعد وقبلها الفلسطينيون دون التدقيق في من اقتنع أو ابتلع الصيغة على مضض.
أما الآن بعد عشرين سنة من قيام السلطة والتبشير بحل الدولتين والاعترافات في الأمم المتحدة وبرلمانات العالم، نجد أنفسنا وقد عدنا إلى ما تحت أوسلو، وهذا أفدح ما حصل للقضية الفلسطينية منذ نشوئها.
كانت القيادة الفلسطينية قد أعلنت أنها ستتخذ مواقف جديدة بعد أن تسمع ما عند إسرائيل... وها هي سمعت.