راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

دومينو التقسيم.. سوريا تسبق العراق

لا يجادل أحد في أن التفاحة العراقية ناضجة تمامًا، ليس منذ اندفع «داعش» وسيطر على الموصل بعد هروب مدروس، وربما متعمّد، لقوات نوري المالكي، بل منذ سلّمت أميركا العراق إلى إيران على طبق من فضة. الآن يبدو أن التفاحة السورية نضجت بدورها بعد خمسة أعوام من القتال والمآسي، وتحديدًا بعدما سلمت أميركا روسيا كل المهمات القذرة!
«المهمات القذرة» بدأت قبل أن ينخرط فلاديمير بوتين عسكريًا في الميدان السوري ليدير المعركة بطريقة متوازية تمامًا مع الجدار المقفل الذي وصلت إليه كل مساعي التسوية السلمية قبل جنيف وبعدها، بما يؤكّد أن الواقع الميداني سيحول دون الحل العسكري.
فلا الأسد قادر على استعادة سيطرته على 80 في المائة من مساحة سوريا التي خسرها، ولا بوتين مستعد لأن يضع في رقبته دماء ربع مليون قتيل إضافي لإعادة حكم عائلة قال عام 2012 إنها يجب أن ترحل، ولا باراك أوباما مستعد أو هو قادر عشية مغادرته البيت الأبيض إلا على التصفيق لبوتين وهو يغرق في إثم تدمير سوريا.
وهكذا كان الاتفاق بين جون كيري وسيرغي لافروف في 22 من الشهر الماضي مفصليًا؛ أولاً عندما تحدث كيري عن «الخطة ب» إذا فشلت مفاوضات التسوية الفاشلة أصلاً، ثم عندما جاء الشرح أوضح من موسكو، حيث أعلن نائب وزير الخارجية سيرغي ريباكوف، وفي مؤتمر صحافي، أن روسيا تؤيد ما يتوصل إليه المشاركون في المفاوضات السورية بما في ذلك إنشاء جمهورية فيدرالية.
جمهوريات فيدرالية؟
إنه بلا ريب الاسم المدلل للتقسيم، الذي لا يشكل اكتشافًا، بل كان هدفًا أميركيًا واضحًا على امتداد التعامي عن المذبحة السورية، وتأكد خصوصًا بعدما عارضت واشنطن دائمًا إقامة المنطقة العازلة في شمال سوريا، ثم بعدما تدخلت بقوة مرة واحدة لدعم الأكراد في كوباني، الذين يقاتلون الآن المعارضة المعتدلة التي دربتها!
صحيح أن ريباكوف يستبعد تطور الأحداث وفق ما سمّاه «سيناريو كوسوفو» الذي شظّى يوغوسلافيا، لكن ضرورة وضع معايير محددة للهيكلة السياسية في سوريا في المستقبل لن يضمن الاحتفاظ بوحدة البلاد في ظل الضغائن وشلالات الدماء وتعدد الإثنيات المتصارعة. ويضيف ريباكوف: «إذا تم تشكيل الهيكلة على قاعدة فيدرالية تهدف للحفاظ على وحدة البلاد أو اعتماد نموذج آخر، فلن تكون تلك قضيتنا أو مسؤوليتنا شرط ألا تكون مفروضة من على بعد آلاف الكيلومترات»!
ولكن ما الحاجة إلى فرض هذا من هذا البعد، فما بات يفصل الآن بين العلويين والسنّة والأكراد يمكن أن يقاس بما هو أبعد من ذلك بكثير، لهذا كل حديث عن الفيدرلة هو وصفة واضحة للتقسيم الكامل الذي لن يتوقف على ما يبدو في سوريا، ليس لأن التفاحة العراقية ناضجة منذ زمن كما قلنا؛ بل لأن بستان التفاح كبير في الإقليم!
ما يعطي هذه الاحتمالات بعدًا أكثر جدية وواقعية هو ما يتعرض له بشار الأسد في الفترة الأخيرة من التقريع أو التوبيخ الروسي الواضح والصريح، ففي 19 من الشهر الماضي قدم الأسد في لقاء مع نقابة المحامين تفسيراته لموضوع الحكم الانتقالي في البلاد، محاولاً نسفه من الأساس وشنّ حملة قوية على أميركا والغرب، عادّا أن الحكم الانتقالي هو فقط الانتقال من الفوضى إلى الاستقرار ومن خلال الدستور القائم!
لكن الرد الروسي جاء سريعًا عندما قال فيتالي تشوركين: «يجب ألا نركّز على ما يقوله الأسد، بل على ما سيقوم به في النهاية، وإذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا فقط، فستكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة». فهل يحتاج هذا الكلام إلى تفسير؟ إنه يعني أولاً أن الأسد سيفعل في النهاية ما تأمره به موسكو، وثانيًا أن كرامته في أن يسمع كلامها.
أكثر من ذلك، تعمّد تشوركين القول مباشرة إن على الأسد أن يعلم موسكو بخططه، داعيًا إياه إلى اتباع تعليماتها، وهو ما يدل على أن الأسد يحاول التملص من الالتزامات التي يبدو أن الأميركيين والروس تفاهموا عليها، ولهذا كان لا بد من أن يذكّره تشوركين بأن «قوات النظام لم تكن لتصمد طويلاً أمام خصومها قبل العمليات الروسية، والتقدم الذي أحرزه مؤخرًا كان بفضل جهود الدعم الذي وفرته مقاتلات الجيش الروسي».
المراقبون وجدوا في الموقف الروسي رسالة ضمنية أيضًا إلى إيران التي تقاتل إلى جانب النظام منذ البداية، ولم تتمكن من أن تنقذه أو أن توقف انهياره قبل دخول روسيا عسكريًا، وبهذا المعنى، إذا كان الأسد يحاول أن يلعب على إثارة التناقضات بين حلفائه الإيرانيين وداعميه الروس، فإنه لن ينجح أبدًا.
ما «الخطة ب»، وما علاقتها الميدانية بالفيدرالية؟ مايكل ويز كتب مقالاً في «ديلي بيست» بداية الأسبوع الماضي، عدّ فيه أن تصريحات كيري ليست أكثر من اعتراف بواقع التقسيم الذي لن تنجو منه سوريا، مذكرًا باقتراح جو بايدن عام 2003 بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات طائفية توقف الحرب على خلفية قيام دولة شيعية في الجنوب الذي يديره الإيرانيون، ودولية سنيّة في الوسط، ودولة كردية في الشمال، حيث يعلن مسعود بارزاني هذه الأيام مباشرة وصراحة أنه ذاهب إلى إجراء استفتاء على الاستقلال.
الفيدرالية السورية التي يتدفق طوفان من الحديث والتحليلات عنها في الصحافة الغربية، ليست عمليًا سوى تقسيم، يرسم منذ الآن حدود ثلاث مناطق، بعضها متلاصق ومتجاور، والبعض الآخر ليس متجاورًا على ما هو الوضع مثلاً بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي هذا السياق، فإن دويلة العلويين هي الأولى التي لا يخفى على أحد أن النظام السوري عكف على إرسائها منذ وصوله إلى الحكم في عام 1970. والكيان العلوي أو ما يسمى «دولة الساحل» يفترض أنه يمتد على ساحل المتوسط من جنوب تركيا إلى دمشق عبر حمص. أما الدويلة الثانية، فيفترض أن تضم المحور الكردي الذي يطلق عليه اسم «روجوفا»، والمحور الثالث يتوزع الآن بين منظمات المعارضة السورية؛ ومنها «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» التي تسيطر على مناطق متباعدة مثل حلب وإدلب وحماه ودرعا والجنوب، وتبقى منطقة «داعش» التي تشن عليها الحرب، وهي تمتد بين الرقة ودير الزور وتدمر.
في التقارير الدبلوماسية الغربية التي تستفيض في ربط الفيدرالية بالتقسيم، أن كل دويلة من مناطق التقسيم ستكون لها مظلة دولية تضمنها، فالروس سيضمنون دولة الساحل العلوية، والأميركيون سيضمنون دويلة الأكراد، أما دويلة المناطق السنّية فتضمنها تركيا والأردن، ويفترض أن ينشأ تعاون بين هذه الدويلات يتولى سحق «داعش».. وليس على الأسد بعد اليوم سوى القول سمعًا وطاعة أيها الرفيق بوتين!