محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

«الجنادرية 30»

على الرغم من أن المملكة العربية السعودية تخوض مع حلفاء لها حربًا ساخنة في الجنوب، وحربًا سياسية لا تقل ضراوة في الشمال، فإن العمل الجاد في الحياة المدنية والثقافية والاقتصادية يجري دون توقف وباطراد. العاصمة الرياض احتضنت في العشرة أيام الأخيرة مهرجان الجنادرية الثقافي الثلاثين، بعد أن تأخر العام الماضي بسبب وفاة الملك الصالح المرحوم عبد الله بن عبد العزيز، الذي رعى ذلك المهرجان لفترة طويلة منذ بدايته، برؤية ثاقبة لأهمية الثقافة في بناء الأوطان. المهرجان الثلاثون له طعم خاص، أولا يشير إلى استمرار المهرجان، وأن البلاد تتعامل بشكل مؤسسي مع ما تحتضنه من نشاط، والثاني أن رعاية وحضور الملك سلمان والقيادة السياسية والثقافية، أعطى نفسًا للمهرجان بمختلف تجلياته أنه هنا ليبقى لأن أهدافه ثابتة كما هي أهداف الدولة. جاء إلى الحدث في الرياض عشرات المثقفين العرب من أرجاء العالم، منهم من يعيش في المهجر ومنهم من جاء من وطنه، وقدمت الفعاليات بشكل منظم ودارت نقاشات عميقة ومتميزة وبسقف عال من الحوار في شؤون شتى تهم الأمة في هذا المنعطف التاريخي، وربما غير المسبوق. ما لفت نظري العمل العلمي الذي أبحرت فيه مؤسسات المملكة العربية السعودية، جاءت مساهمتي في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية في حوار موسع حول المناعة الثقافية والمجتمع المتحول في منطقتنا العربية، المناقشات كانت ثرية، لأن الحضور إما أساتذة في كليات ذلك الصرح العلمي وإما من الطلاب، وهم من طلاب الدراسات العليا في الكليات الكثيرة لهذه الجامعة، كما كانت الظاهرة الثانية أن تلك الجامعة ينتظم في فصولها العنصر النسائي في التخصصات المختلفة، وثالثًا هي جامعة عربية في أرض سعودية. العمل العلمي الذي قامت به هذه المؤسسة ربما غير مضاء عليه بما فيه الكفاية، وقد ألقيت نظرة على لائحة الإصدارات لهذه الجامعة من كتب منشورة أو أطروحات علمية للماجستير والدكتوراه، فراعني ما وجدت، وأنا أستخدم الكلمات بتحفظ حتى لا يعتقد أحد أن بها شيئًا من المجاملة. الدور الذي تقوم به هذه الجامعة علميًا يعني أن الأمر لم يعد اجتهادًا في مسيرة بناء الأوطان، بل مؤسسة على أفكار علمية، فإن فكرت في أي موضوع يهم المجتمع سوف تجد أن هناك دراسة أو أكثر في المكتبة الغنية لهذه الجامعة تُعنى به، موضوعات قد لا تطرأ على بال، على سبيل المثال (خصائص المجتمعات الزراعية في دول الخليج العربي) أو موضوع (الإرهاب باستخدام المتفجرات) أو (تأمين المستندات والوثائق ضد التزوير) إلى الكثير من الدراسات التي تبدو كمروحة واسعة في تتبع الظاهرة الاجتماعية - السياسية المتجددة في المجتمعات العربية والمجتمع السعودي. الجامعات السعودية هي الثورة الصامتة التي حدثت في تلك البلاد، وهي ثورة هادئة ولكن عميقة وفعالة، وأفضل تجلٍ لنتاجها هم الشباب الذين كانوا في علاقة مباشرة بضيوف المهرجان، كل واحد منهم يمثل ذلك النموذج الذي يسر له الصديق وبالتأكيد ربما يغيظ الأعداء. أما المرأة في المملكة بسبب ما توفر لها من فرص علمية وعملية فإنها قد شقت لها موقعًا متقدمًا في العلم والعمل، بل أصبح هناك منهن من شكلن علامات بارزة في البحث العلمي العالمي بشهادة مؤسسات بحثية نشرت عنها وسائل الإعلام.
كان الحديث عند المقارنة في الإقليم ماذا فعلت السعودية في المساهمة العلمية؟ وهو سؤال يطرح من خلال البعض لتبخيس العمل العلمي للرجال والنساء السعوديات، إلا أن المطلع يعرف أن السنوات الماضية كان هناك جهد متراكم يرى المنصف الآن قطف ثمراته في عدد الأوراق العلمية المقبولة عالميًا للنشر في منشورات علمية عالمية محكمة. التراكم الكمي الذي حدث في المملكة سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى تغيير نوعي قريب، فالخطط المعلن عنها حتى الآن تنبئ بذلك، ربما عطلت المسيرة جزئيًا هذا التوتر الحادث من حروب ساخنة أو سياسية المشار إليها سلفًا، إلا أنها في تقدير كثيرين تُنضج تلك الخطط، وتدفع بها إلى الأمام. الحديث لا يخلو عن تساؤل في أروقة «الجنادرية»، وماذا عن أسعار النفط؟ نعم ذلك سؤال شرعي يطرح في وقته، إلا أن التخوف من البعض مبالغ فيه على أقل تقدير، أولم يستطع حساب المكون غير النفطي في اقتصاد المملكة العربية السعودية، ربما أسعار النفط سوف تدفع إلى ترشيق السياسات، وحبس الهدر، واستخدام أفضل للموارد، وعلى رأسها رأس المال البشري السعودي الذي يمكن أن يساهم بفعالية في الأنشطة الاقتصادية الحديثة، على رأسها (اقتصاد المعرفة) الذي فكرت فيه الدولة السعودية ووضعت له خططًا أصبحت معروفة لمن يريد أن يطلع عليها. الرياض المدينة التي لا تنام تكتظ شوارعها بكمية من المرور مرهقة للبعض، إلا أن أزمة السير تلك أحد أسبابها مترو الرياض تحت التأسيس، الذي شغلت أعمال إقامته جزءًا من الشوارع العريضة للمدينة الكبيرة، والتي تتسع. يقيني أن قرار إقامة مهرجان الجنادرية، ودعوة هذه المجموعة الكبيرة من المهتمين بالثقافة، الذين ساهموا في نشاطاته عربًا وغير عرب، يؤشر إلى الركون إلى استقرار واضح في الدولة، حتى ما كان قبل سنوات مشاهدًا في شوارع الرياض من حذر أمني لم يعد مشاهدًا بنفس الكثرة السابقة، كما أن انسياب المرور قريبًا من المؤسسات العامة لا يحمل ذلك الترقب في سنوات سابقة. قائمة المدعوين إلى «الجنادرية 30» بلغت في الكتيب الموزع مائة وتسعًا وعشرين صفحة، كل صفحة تحمل ملخصًا سريعًا للسيرة المهنية للمدعو، وهؤلاء جميعهم من الخارج، أما من داخل المملكة من المؤسسات الثقافية والعلمية فهم كثيرون.
لقد أرسل «الجنادرية 30» من خلال تفاعلات نشاطاته رسالة واضحة لمن يريد أن يقر بأن البلاد لا تعاني ارتباكًا أو تعطيلاً، كما أنها عاصمة عربية تحتضن العرب، فعاصمتها تضج بالنور والحركة الثقافية أيضًا، وهي مناسبة للقول: إن البناء الشامخ الذي تأسس في هذه البلاد يعلو ويترسخ، وإن ما فرض عليها من تحد يواجه بكل عزم وحزم أيضًا، وإن اليد الأخرى مستمرة في البناء اعتمادًا على كوادر تعتمد العلم والإدارة الحديثة.

آخر الكلام:
لا أعرف على وجه اليقين أنه كلما سمعت تصريحات السيد وليد المعلم، تذكرت نعيق الغراب، الذي يريد أن يطرب «معلمه»، هو ومعلمه يعرفان أن صوته نشاز!