جوزيه غرازيانو دا سيلفا
TT

لا سلام بلا أمن غذائي

الصراع الوحشي الذي طال أمده في سوريا لم يخلّف حصيلة بشرية هائلة من الضحايا فحسب، بل ودفع أيضًا بموجات لا نهاية لها من اللاجئين والمشرّدين في كل حدبٍ وصوب.. على نحوٍ استتبع آثارًا جانبية مثيرة للجزع على صعيد المنطقة وما وراءها.
وفي حين نأمل جميعًا أن يحلّ السلام، يظل تمكين من تبقّى من مزارعي سوريا للحفاظ على شرايين الحياة ضرورةً ملحّة في أرض توطّن فيها إنتاج القمح كمحصول أساسي منذ فجر التاريخ.
ووسط ما يتوارد من تقارير عن مدن هلكت بأسرها، وأكثر من 13.5 مليون من المشرّدين أو المعرضين للتشرّد، فضلاً عن 4.4 مليون لاجئ، يتعين ألا ننسى محنة المزارعين السوريين في غمار هذه المآسي.
وبينما استخدمت الزراعة في سوريا نحو نصف سكان البلاد ذات يوم، فالمؤكد اليوم أن هذا القطاع يظل هو المحرّك الرئيسي للاقتصاد السوري، ناهيك بأن أولئك الذين ما زالوا يحرثون الأرض هم العمود الفقري لإمدادات الغذاء في سوريا، ودون مساهماتهم لن تسير أزمة الأمن الغذائي في سوريا من سيئ إلى أسوأ على المدى القصير فحسب، وإنما ستلحق أضرار ماحقة بقدرة سوريا ككل على الصمود والتجاوب في المدى الطويل لاستعادة مكانتها كدولة مكتفية ذاتيًا وذات دخل متوسط، بل وقادرة على أن تصدّر القمح. ومن دون دعمٍ سريع وقوي للزراعة في سوريا، فلن يملك المزيد من مزارعي سوريا من خيار سوى التخلّي عن أراضيهم، والهجرة في نهاية المطاف إلى بلدان أخرى.
فلا يمكن أن يحل سلامٌ في غياب الأمن الغذائي.. مثلما لا يمكن أن يستتب الأمن الغذائي في غياب السلام. ومن المستحيل أن يصبح السلام مستدامًا دون الأمن الغذائي.
وبالمثل، لا يمكن أن تُعتبر الزراعة قضية ثانوية في تجمّع الحكومات بمؤتمر لندن للمانحين حول سوريا، الذي دعت إلى عقده حكومات كل من الكويت، وألمانيا، والنرويج، والمملكة المتحدة، جنبًا إلى جنب مع الأمم المتحدة.
وفي الوقت الراهن، تمخض عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية سحق ما تبقى من ميزانيات العائلات والأفراد، وخصوصًا في أعقاب الضربات التي سددتها العمليات العسكرية من تدميرٍ للمساكن، وجَرح المواطنين، وزعزعة الأسس الكاملة لسلسلة الأنشطة التي تجعل إنتاج الأغذية أمرًا ممكنًا في المقام الأول.
وكما تظهر الأمور حاليًا، فإن سوريا فقدت نصف ثروتها الحيوانية، وبينما تمكنت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) من علاج نحو تسعة ملايين رأس، فإن إمكانية انتشار الأمراض من الحيوانات الحيّة غير المحصّنة يظل تهديدًا حقيقيًا وقائمًا. أما إنتاج القمح فيأتي رغم الظروف الجوية والزراعية المواتية أقل بنحو 40 في المائة من متوسط ما قبل الأزمة.
وبكل بساطة، لم يعد المزارعون والرعاة يملكون أدوات العمل وسط نقص المستلزمات الأساسية كالبذور والأسمدة، بينما تعرّضت المعدات والبنية التحتية للتلف، ولم يعد ثمة يد عاملة يُعتمد عليها. وإلى جانب ندرة العلف الحيواني، انهارت الخدمات البيطرية المحلية أو باتت تقع تحت طائلة إجهاد لا يُحتمل.
وإزاء هذه الأوضاع، استجابت «فاو» بتعزيز وجودها في سوريا، وفي عام 2015 وحده ساعدت 1.5 مليون شخص في 13 من أصل 14 محافظة سورية، من خلال دعم إنتاج الحبوب والخضراوات، وتوزيع البذور وصونها، وحماية القطعان الحيوانية المتبقية.
في تلك الأثناء، تراجع تمويل التدخلات الزراعية الخارجية، عقب الأحداث في سوريا، بما يتجاوز 70 في المائة عام 2015، حتى وإن ظل هنالك الكثير الذي يمكن القيام به، وما هو أكثر بكثير مما يتعيّن القيام به.
فبفضل تمويل مقداره 200 دولار مثلاً، بوسع المزارع السوري أن يُنتج طنين من القمح، لتوفير الدخل وتدبير الغذاء لأسرة مكونة من ستة أفراد ولفترة سنة كاملة. وعلاوة على هذا وذاك، فإن أبطال هذه الملحمة من المزارعين رجالاً كانوا أم نساء سوف تُروى عنهم قصص بطولية تُحتذى لنجاحهم في التغلب على الأزمة الحالية.
وعلى النقيض من ذلك، فإن تكلفة استيراد طن واحد من القمح ستأتي أعلى بكثير بالمقارنة، ونحن على دراية تامة بأن تعطّل سبل الرزق يفضي إلى التبعية ويدفع إلى السعي الحثيث بحثًا عن حياة أفضل في مناطق وبلدان أخرى، مثلما اضطرت إليه 50 عائلة سورية كل ساعة، من كل يوم، طيلة السنوات الخمس الماضية.
وإذا كانت الزراعة تمثل القناة الرئيسية لفرص العمل وإعادة بناء الاقتصاد السوري، فإن المساعي التي تقودها الأمم المتحدة بذلت الكثير من الجهد للتخفيف من معاناة شريحة كبيرة من الفئات المستهدفة بالمعونة القصيرة الأجل. إن المطلوب الآن هو مواصلة توسعة نطاق هذه الجهود تعزيزًا للاستدامة في صفوف منتجي الغذاء السوريين.
ولا يمثل نداء المنظمة سوى جزء ضئيل من الأموال اللازمة لمواجهة تبعات الأزمة الإنسانية الأوسع نطاقًا في سوريا، حتى وإن تعيّن على المانحين أن يفكروا على نحو شبيه بالمزارعين، أي: على المرء أن يبذر أولاً لكي يجني حصادًا.
* المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة
للأغذية والزراعة (فاو)