أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الأيقونة السوداء والمشكلة الروسية

خلال الشهر الماضي، عندما أصدر الرئيس فلاديمير بوتين قراره بأن تؤخذ أيقونة العذراء السوداء في قازان، الرمز الأكثر قداسة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، في طائرة تحلق بها فوق البحر الأسود، اعتقد الكثيرون أن بوتين كان يريد استدرار البركات لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي. كانت هذه هي المرة الأولى التي يجري الاستعانة بالتمثال - أو بالأحرى نسخة منه منذ أن سُرق التمثال الأصلي ودُمر في عام 1904 - لغرض من أغراض السلام. وعلى مدى قرون طويلة، كان دائما ما يجري اصطحاب «الأيقونة السوداء» بغرض جلب البركات للجيوش الروسية التي تخوض الحروب ضد الغزاة السويديين والبولنديين والأتراك والفرس والألمان والفرنسيين. فقد بعث ستالين بالتمثال إلى ستالينغراد عام 1943 لضمان تحقيق الجيش الروسي النصر على الغزاة الألمان بقيادة المارشال فريدريك فيلهايمز إرنست باولوس.
ومع سيطرة قوات بوتين على شبه جزيرة القرم الأوكرانية وتهديده بمزيد من التوغل داخل أوكرانيا، ينبغي أن نعرف الآن أن هذا هو الوقت الذي سيستعين فيه بوتين بـ «الأيقونة السوداء» لاستدرار البركات سعيا لنجاح عملية عسكرية جديدة.
ويبدو بوتين في الوقت الحالي قويا لأن الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي يقال عنه خطأ إنه قائد الديمقراطيات الغربية، يبدو ضعيفا. يُسرف بوتين في التلويح باستخدام القوة التي لا تمتلكها روسيا في حقيقة الأمر، بينما يبخل أوباما في استخدام القوة التي تمتلكها أميركا بالفعل. وطالما أن أوباما يفرض قيودا على ممارسة أميركا لدورها القيادي، الذي تمارسه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فلن يرى بوتين أي مبرر يمنعه من السعي وراء تحقيق حلمه في إحياء الإمبراطورية السوفياتية حيثما كان ذلك ممكنا، وهو في ذلك يتبع تقليدا روسيا قديما منذ القرن الثامن العشر عندما بزغ نجم روسيا وسارت قوة عظمى يؤرقها هاجس أن تجد نفسها محاصرة، ذلك الهاجس الذي نمّى الروح العدائية لدى روسيا.
وخلال القرن التاسع عشر، استغلت روسيا مسألة «حماية الأقليات المسيحية» كذريعة لغزو جيرانها من الدول المسلمة، لا سيما الإمبراطورية العثمانية وإيران، وضم مساحات واسعة من الأراضي تحت سيطرتها. وتحت غطاء حماية الأقليات، قامت روسيا بضم شمال القوقاز وجورجيا وأرمينيا، وحديثا شبه جزيرة القرم الأوكرانية. كما لجأت روسيا إلى تلك الذريعة للاستيلاء على الكثير من الأراضي التي تخص جيرانها الأوروبيين، بما في ذلك ألمانيا وبولندا وفنلندا. وخلال مائة عام، كانت روسيا تتوسع بمقدار 100 كيلومتر مربع في اليوم، صانعة بذلك الإمبراطورية الأكبر من حيث مساحة الأراضي.
وبترويجهم لفكرة أن روسيا هي «روما الثالثة» والحصن الأخير للدفاع عن المسيحية في العالم، زعم بناة الإمبراطورية الروسية أن مشروعهم يحظى بمباركة إلهية.
وفي أعقاب الثورة البلشفية في عام 1917. استبدلت الإمبراطورية، التي أصبح اسمها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، الشيوعية بالمسيحية، وأصبحت الشيوعية هي الأساس الآيديولوجي الجديد للإمبراطورية الروسية.
وتحت عباءة الدفاع عن الاشتراكية في خمسينات وستينات القرن الماضي، أرسل الاتحاد السوفياتي دباباته إلى المجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا. كما جرى غزو أفغانستان عام 1979 أيضا تحت زعم الدفاع عن الاشتراكية.
وبعد تفكك الإمبراطورية السوفياتية في عام 1991. ظهرت ذريعة جديدة ألا وهي حماية «أقارب وأصدقاء» روسيا من الدول المجاورة. في بعض الحالات كانت هذه الأقليات مجتمعات أصيلة تشكلت على مدار ما يقرب من قرن كامل. وفي حالات أخرى، كانت المجتمعات التي تدخل تحت مظلة «الأقارب والأصدقاء» تُستغل كوسيلة ضغط على الجيران الضعاف.
في عهد بوتين، واصلت موسكو توزيع أعداد كبيرة من جوازات السفر الروسية - يقول البعض إن أعدادها قاربت الملايين - في الدول المجاورة، وخاصة أذربيجان، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا، وكازاخستان. وهناك أيضا أعداد كبيرة من حاملي جوازات السفر الروسية في ترانسنيستريا، وهي جزء من مولدوفا ليس لها حدود مع روسيا.
وجاء الاختبار الأول لذريعة حماية «الأقارب والأصدقاء» في عام 2000. عندما أجبر بوتين، حينما كان رئيسا للوزراء وقتها، طاجيكستان على استضافة 15000 فرد من القوات الروسية المتمركزة في ست قواعد عسكرية هناك.
أما المرة الثانية التي جرى خلالها اللجوء إلى حجة حماية «الأقارب والأصدقاء» فكانت في أغسطس (آب) 2008 بالتزامن مع انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الصينية، بكين. كان بوتين حينها قد عاد إلى كرسي الرئاسة، وأمر بغزو جورجيا، وكانت نتيجة هذا الغزو أن ضم جمهوريات الحكم الذاتي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا إلى روسيا. ولدى روسيا اليوم نحو 40000 جندي في هذين الإقليمين المعزولين.
وتُعتبر أوكرانيا ثالث دولة تدخل ضمن لعبة بوتين لحماية «الأقارب والأصدقاء»، وحتى إذا تمكن بوتين من سحب قواته من شبه جزيرة القرم، فلن تكون المرة الأخيرة التي يلجأ فيها إلى تلك الذريعة.
السذاجات، التي يرتكبها بوتين في شبه جزيرة القرم، ما هي إلا أعراض لمرض مستفحل سببه عدم قدرة روسيا على تقدير موقعها في النظام الدولي ما بعد الحرب الباردة، وكذلك عدم قدرة القوى الأوروبية والولايات المتحدة على استيعاب روسيا بطريقة تتناسب مع ثقلها، إن لم يكن طموحاتها.
في الربع الأخير من القرن الماضي ومع فقدانها لحلفائها في شرق ووسط أوروبا، بدأت روسيا ترى نطاق دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) يتمدد حتى وصل إلى حدودها. لقد دخلت القارة الأوروبية بأكملها ضمن الأطر التي يحددها حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. واليوم، ما زالت روسيا، بالإضافة إلى أربع دول أوروبية أخرى، محرومة من الدخول تحت مظلة الناتو والاتحاد الأوروبي. استغرق الأمر ما يقرب من عقدين حتى استطاعت روسيا الدخول في منظمة التجارة العالمية (WTO)، ثم جرى منحها - بشكل مبدئي ومتردد - مقعدا في مجموعة الدول الثماني (G - 8) أما المنفذ الوحيد الذي تمارس روسيا من خلاله دورا قياديا فهو مقعدها الدائم، الذي يمنحها حق الفيتو، في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يُعد من مخلفات الحرب الباردة. ومنذ نهاية الحرب الباردة حتى جاء الوقت الذي عمل فيه أوباما على شل حركة سياسة الولايات المتحدة الخارجية، استمرت القوى الغربية بقيادة واشنطن ببساطة في تجاهل روسيا كلما حانت فرصة مناسبة لذلك، مثلما حدث خلال التدخل العسكري في العراق عام 2003.
أسس بوتين استراتيجيته على هاجس الحصار من قبل القوى المعادية و«وكلائها» داخل روسيا. أما بالنسبة للغرب، فقد بقيت روسيا محرومة من الدخول تحت مظلة أوروبا، التي -وللمفارقة- تظل الشريك التجاري الرئيسي لموسكو. ومن الجنوب، تطوق روسيا سلسلة من الدول ذات الأغلبية المسلمة، التي تضمر مشاعر استياء عميقة تجاه روسيا القيصرية والشيوعية بسبب القمع الذي لاقوه على يد حكامها. وفي الشرق، تواجه روسيا قوتين معاديتين: الصين واليابان، التي تبقى جزء من أراضيها تحت الاحتلال الروسي.
أما في الداخل، فتخوض روسيا حربا لا تبدو لها نهاية ضد القوات الجهادية في خمس من جمهوريات القوقاز، في حين تبقى علاقات مع جورجيا وأرمينيا متوترة. يدعي رئيس الوزراء، ديمتري ميدفيديف، أن روسيا اليوم في طليعة القوى التي تحارب «الإرهاب الإسلامي» وهدفه في غزو العالم. إلا أنه لا يبدو أن الجهاديين وحدهم هم من يشكلون تهديدا لرؤية بوتين المثالية لروسيا عظيمة تسعى لممارسة دور في قيادة العالم. فالجماعات التبشيرية المسيحية الممولة جيدا، ومعظمها من الولايات المتحدة، تسعى جاهدة لتوسع شبكاتها في جميع أنحاء روسيا على حساب الكنيسة الأرثوذكسية، التي أصبحت الحليف الآيديولوجي الرئيسي لبوتين.
وما يجعل الأمر يبدو أكثر سوءا لبوتين هو أسلوب حكمه الاستبدادي الذي يعارضه عدد متزايد من الروس، الذين تغريهم أفكار ديمقراطية التعددية الحزبية الغربية وبطلان فكرة تقديس السلطة السياسية. وفي الوقت نفسه، ضعفت هيمنة الأثرياء الروس، الذين يحتاج بوتين إلى دعمهم، على الاقتصاد، حتى باتوا يمنعون في بعض الأحيان من تحقيق أي تطور في أي مجال. وعليه، فقد صارت روسيا دولة مصدرة للمواد الخام، خاصة النفط والغاز، وصارت أكثر اعتمادا على الأسواق الأوروبية. الأسوأ من ذلك أن جزءا كبيرا من رؤوس الأموال، التي صُنعت في روسيا، وجدت طريقها إلى خزائن البنوك الأوروبية، لا سيما في بريطانيا وسويسرا.
واليوم، لا تكمن المشكلة الحقيقية فيما إذا كانت القوات الروسية ستبقى في قواعدها في شبه جزيرة القرم، أم ستخرج إلى شوارع سيباستوبول لاستعراض قوتها أمام سكانها. فالمشكلة الحقيقية تكمن في الكيفية التي يمكن أن تجد روسيا من خلالها موطئ قدم في النظام العالمي، الذي لم تلعب دورا في بنائه. إن السياسية الحالية، التي يتبناها بوتين، من الممكن أن تؤدي إلى تحويل روسيا إلى دولة مارقة، وهو ما من شأنه أن يكون له تداعيات خطيرة سواء بالنسبة لروسيا أو بالنسبة للعالم أجمع، وساعتها لن يجدي طلب البركات من أيقونة العذراء السوداء.