د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

عقل الدولة وقلب الحقوقيين

من الانعكاسات السلبية للإرهاب، التي لا تُحصى ولا تعد، أنه يضع الأطراف والمجالات كافة في مأزق ووضع إشكالي بامتياز. فهو لا يقطع الرؤوس ويفجر الأجساد فقط، ولا يكتفي بتضييق الخناق على الاقتصاد وبث الرعب النفسي والاجتماعي عند الشعوب، بل أيضًا يخلق توترات بين السياسي والحقوقي والقانوني، ويحملنا - على وضاعته - إلى إعادة النظر في عدة مبادئ حقوقية قانونية ودستورية أحيانًا، وهي إعادة - مع الأسف - ليست من أجل الأفضل، بل هي إلزام لتنسيب المبادئ العامة والحد من صرامتها.
وكي لا يكون كلامنا عامًا وصالحًا لكل مكان وزمان نستحضر الجدل التونسي القائم حاليًا على أثر العملية الانتحارية، التي تعرض إليها الأمن الرئاسي التونسي، وكان حصادها المؤلم 12 قتيلاً.
فهو جدل، على توتره وتشنجه وافتقاره إلى روح الحوار الجاد والمسؤول، فإنه تتوفر فيه أحقية الجدل. ونقصد بذلك التباين في المواقف بين من يرى أنه لا بد من الرضوخ إلى أوامر عقل الدولة في معالجة ظاهرة الإرهاب وجرائمه، ومَن يدافع عن المعالجة الحقوقية لملف الإرهابيين، وينتصر لحقوقهم الإنسانية بغض النظر عن مدى بشاعة الجرائم المقترفة.
وفي الحقيقة، فإن هذا الجدل لا يتصل فقط ببلدان حديثة العهد بالثورات، بل إنه يحل كلما حل الإرهاب في أي بقعة من الخريطة.
ولقد رأينا كيف علا صوت الجدل في هذه المسألة في الولايات المتحدة كرد فعل انتقادي ضد الإجراءات التضييقية على الحريات التي اتخذها البيت الأبيض بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
والأمر نفسه يحصل الآن في فرنسا مهد الثورة والحقوق والحرية بعد الهجوم الإرهابي الذي عرفته الأيام الأخيرة.
ما نلاحظه من خلال تجارب عريقة في الديمقراطية والحرية والمواطنة أن الدولة الحديثة في طروحات جان جاك روسو وهيغل ونابليون بونابرت هي الأعلى والأقوى، ولا شيء يعلو أمام عقل الدولة، عندما تحتم الوقائع والأحداث تدخل الدولة بعنف، أي أنه من تاريخ أفكار عصر الأنوار وصولاً إلى ماكس فيبر، الذي يقر باستئثار الدولة وحدها بالعنف الذي يصفه بالعنف المشروع، فإن الدولة هي الحكم، وهي لا تنصت إلا إلى عقلها.
ولما كان المنطق، الذي يستند إليه عقل الدولة، هو في اختلاف إلى حد التناقض مع عقل الحقوقي وروح القانون، فإن التوتر بين هذه «العقول» يشتد في الحالات التي تجد فيها الدولة نفسها أمام حرب لا مفر منها ولا أحد يستطيع أن يقوم بها بالنيابة عنها.
ولعل محاربة الإرهاب هي أكثر أنواع الحروب شراسة وتعقيدًا، الأمر الذي يجعل الدولة توظف كل ما يمكن أن يساعدها في هذه الحرب المعقدة التي تختلف عن كل أشكال الحروب التقليدية المعروفة.
المشكل في تونس وفي بلدان الثورات، أنه كلما أرادت الدولة أن تمسك بقبضة من حديد تعالت أصوات الحقوقيين منتقدة ومنددة، وهو ما أربك، بالنسبة لتونس مثلاً، سياسة محاربة الإرهاب، حيث إن حربها على الإرهاب تبدو بطيئة وتفتقر إلى استراتيجية واضحة. كما أن مجلس الشعب تباطأ في مناقشة مشروع قانون الإرهاب تحت ضغط المجتمع المدني - الحقوقي، الذي يتمتع بسلطة فاعلة في تونس.
ولا نستطيع إلا أن نسجل مفارقة قوية في هذا السياق، مفادها كيف يتغاضى الحقوقيون العرب عن مفهوم عقل الدولة طبقًا لرؤية هيغل وماهيتها؟ أي أن الثقافة الأوروبية الغربية التي بشرت بحقوق الإنسان والحرية والكرامة وإعلاء شأن الفرد وحقوق المواطنة وحق المجرم في الدفاع عنه، والتي تقف ضد عقوبة الإعدام مهما كان الجرم فظيعًا، إنما هي نفس الثقافة التي أنتجت فكرة عقل الدولة ومفهوم استئثارها بالعنف المشروع، وما إلى ذلك من المفاهيم والأفكار التي تندرج ضمن تأليه الدولة.
طبعًا لا يفوتنا التمييز بين الديكتاتورية كنظام حكم وثقافة تستند إليها النخبة الحاكمة وعقل الدولة وضروراته في الأحداث الكبرى الاستثنائية، التي يصبح فيها أمن الشعب فوق كل اعتبار، بما في ذلك التنازل عن بعض حرياته الشخصية.
الواضح أن هناك أزمة ثقة بين النخب المدنية والأخرى السياسية، ناهيك بأن النخب الحقوقية ذاتها تتعاطى مع منظومة الفكر الحداثي ومؤسساته ومبادئه، المتحرك منها والثابت، تعاطيًا انتقائيًا.
وفي الحقيقة مثل هذا التعامل مفهوم جدًا، لأن تاريخ النضال الحقوقي في الفضاءات العربية قام على فكرة معارضة الدول العربية وعلى رفضها والتشكيك في كل سياساتها، علاوة على أن طبيعة العلاقة بينهما قائمة على افتكاك طويل النفس والأمد للحقوق، وليس سهلاً القبول بالتراجع قيد أنملة عن أي مكسب من المكاسب، على اعتبار أن اللاثقة تزرع الخوف لدى الحقوقيين من أن يفتح باب الانتهاكات من جديد.
وبالنظر إلى ازدياد حجم الجرائم الإرهابية اليوم، كمًا ونوعًا، في العالم، فإن الدفاع عن الإرهابيين، وفق المنظور الحقوقي، بات يمثل طرحًا بصدد التآكل، حتى إن البعض يعد الخطاب الحقوقي المدافع عن حقوق الإرهابيين بمثابة التشجيع المقنع لهم، ناهيك بأنه يحول دون إعلاء صوت عقل الدولة وفعله.
وفي كل الدول التي تعرضت إلى عمليات إرهابية بشعة، لاحظنا أنه - آليًا - يعلو صوت عقل الدولة، ولا شيء سواه، وتصبح الأصوات المضادة في لحظات تشويشًا على الحرب على الإرهاب، واعتداءً على ألم عائلات ضحايا الإرهاب، وهم يشاهدون حقوقيين يدافعون عن جلاديهم بصوت عالٍ أمام الكاميرات وتحت قبة مجلس الشعب.
بيت القصيد: من الآن فصاعدًا ستكون الغلبة لعقل الدولة، لأن منطق الدولة في محاربة الإرهاب يختلف عن قلب الحقوقيين الذي يتسع للأبرياء والقتلى معًا.. لذلك، فإننا نميل إلى تفهم منطق الدولة دون أن نغفل عن مراقبته ورصد انحرافاته.