نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

سامحنا يا «أبو عمار»

منذ غياب ياسر عرفات قبل إحدى عشرة سنة والفلسطينيون يتداولون الكثير من الأسئلة، منها مثلاً: ماذا كان سيحدث لو أن عرفات على قيد الحياة؟
هذا السؤال رُفع بقوة حين فازت حماس بانتخابات المجلس التشريعي وبأغلبية «تركية»، وحين وقع الانقسام وأسست حماس إمارة مستقلة عن الضفة في قطاع غزة وجاهرت بنفوذ يصل إلى حد التطلع إلى الحكم في كل الوطن، ورفع كذلك حين مارست حماس أفظع أشكال التنكيل بقيادة فتح وكوادرها في بلد فتح الأصلي، قطاع غزة، وما زال يرفع كلما اعترى الحالة الفلسطينية وهن من أي نوع، وهذا السؤال الذي لا يزال يتداول منذ غياب الرجل، له مغزاه الذي ينطوي على أمرين متناقضين؛ أولهما قوة حضور الرجل ليس في الذاكرة فقط، وإنما في الحياة، والثاني طغيان فراغ قاتل ومخيف أدى إلى ما نحن فيه الآن من غياب عن المسرح الفعلي للأحداث واستيطان طويل الأمد في الهوامش الضيقة.
لقد كرهت المصطلح البائس الذي ظهر أيام وفاة عرفات، ذلك المصطلح الذي وصف حال الشعب الفلسطيني بـ«اليتم»، رفضت - وما أزال - هذا المصطلح غير الواقعي في وصف شعب هو الشعب الفلسطيني الذي بهر العالم بإبداعه وقوة تحديه لمن هم أكبر وأقوى منه بكثير.. شعب كهذا لا يمكن أن يوصف بـ«اليتيم» لغياب قائد ثورته مثلما غاب قادة كثيرون معه وقبله، إلا أنني وبكل أسف أشعر بأن كلمة «اليتم» تنطبق على الطبقة السياسية التي أسسها عرفات وفرد حطّته عليها مذيبًا تناقضاتها وانشقاقاتها، فارضًا على الجميع؛ متفقين ومختلفين، وئامًا نادرًا كان يصفه بـ«وئام البنادق». وبحكمته في الاحتواء والاستيعاب، جعل من الاختلاف مصدر قوة، وجعل من أي انشقاق مهما كانت عناوينه ودوافعه وأغلفته محل إدانة، ولعله من الحكمة تمثل المستمر من تراث عرفات وإبداعاته وإنجازاته، ففي ذكراه قبل سنوات قليلة استعاد غزة من براثن الانقسام يوم خرج مليون فلسطيني للاحتفاء بذكراه، موجهين للعالم رسالة لم تحسن طبقته السياسية التي أسسها استثمارها، فلقد كانت الأبلغ في التعبير عن عمق الانتماء الوطني وقوته على طريقة عرفات، مما جعل حماس تندم على السماح بمليونية كهذه، ومنذ ذلك الوقت صار الخوف من روح عرفات سياسة وثقافة؛ إذ جرى الاحتفاظ بمنزله سنوات طويلة، وجرى كذلك تبديد ما بني من صروح معنوية صنعتها الذكرى التي بدت أقوى كثيرًا من الواقع.
لقد حزنت كثيرًا وأنا أستمع إلى تصريح من أحد قادة فتح حين تسلم مفتاح بيت الزعيم الراحل في غزة، حيث قال إنها خطوة مهمة، وحزنت كذلك حين سمح لفتح بأن تقيم احتفال ذكرى في مكان مغلق (قاعة مناسبات أو مطعم أو مقهى)، وحين يكون تسلم مفتاح البيت إنجازًا يستحق أن يوصف بالمهم، فهذا هو البرهان على اختلاف الزمن وتدني المعايير وتلاشي المقاييس القديمة التي كانت فيها المليونيات تملأ العالم العربي؛ إما لمناسبة تاريخية من تلك التي تمتلئ بها الروزنامة، أو تضامنًا مع معركة بطولية كان يخوضها الفلسطينيون في زمن عرفات. لقد ذاب كل ذلك.. حتى إن انتفاضة فلسطينية ولدت دون أن يجرؤ فصيل على الادعاء بأنه صانعها، وتقلصت المهمات ليجري الحديث عن مصالحات بين أشخاص وتشكيلات حتى ولدت في زمننا هذا طرفة تقول: هنالك إمكانية لاتحاد كونفدرالي بين الضفة وغزة.
كل هذه الظواهر الهابطة نشأت وتكرست وصارت سمة الوضع الفلسطيني، وفي الذكرى الحادية عشرة لغياب ياسر عرفات أقول: سامحنا يا أبو عمار فقد خذلناك.