ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

المفتي أقنعني

النكات والرسوم الأخيرة أظهرته ضاحكًا وهازئًا، لكن ربما لم يكن الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر ليضحك على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة. الأرجح أنه كان سيغضب حيال التبرئة المجانية التي منحه إياها نتنياهو، بعد أن جرده من براءة اختراعه الشيطاني المتمثل بالمحارق النازية لليهود..
لقد قرر نتنياهو في واحدة من لحظات صفاقته وكراهيته الشخصية للفلسطينيين أن يغير حقيقة تاريخية مثبتة، وأن يعفي هتلر من دم ملايين اليهود، وأن ينسب قتلهم إلى الفلسطينيين من خلال إعلانه حوارًا متخيلاً بين هتلر ومفتي القدس أمين الحسيني والقول إن فكرة حرق اليهود اقترحها الحسيني على هتلر، فكاد الأخير يصرخ: «وجدتها».. شرع في محارقه.
تلك المخيلة الرخيصة المشبعة بالسواد تجاه الفلسطينيين قلبت مسار الصراع الإعلامي والسياسي، الأسبوع الماضي. هذا الصراع في جبهته الإلكترونية كان يشتغل على وقع الشارع، ويفيض تبادلاً للشتائم والصور والإدانات حول التدهور الأمني الأخير بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أتت مواقف نتنياهو لتطلق مواجهة مختلفة هذه المرة.
السخرية من نتنياهو وحّدت الجبهات، وإن من زوايا مختلفة تمامًا. فجل السخرية أتى من إسرائيليين قبل غيرهم، ومن حلفاء تاريخيين للدولة العبرية لم يتمكنوا من هضم ما قاله نتنياهو، رغم مواقفهم العدائية تجاه الفلسطينيين. ألمانيا نفسها قالت إنها لا ترى سببًا لتغيير رؤيتها إلى التاريخ، وإنها مستمرة في تحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه ما ارتكب النازيون بحق اليهود، وستواصل دفع الثمن لأجيال قادمة..
شاع «هاشتاغ».. «أقنعني المفتي» لتنطلق موجة ضحك ونقد ساخر واسعة من اتهام نتنياهو للمفتي.
نعم، السخرية من نتنياهو وفضحه عبر مواقع التواصل الاجتماعي شيء ضروري. هذا قد لا يبدل شيئًا على الأرض لصالح الفلسطينيين، فهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها مسؤولون إسرائيليون المحرقة أداة سياسية لتقويض حقوق ومصداقية الفلسطينيين، لكن من المفيد إضعاف المنطق المتغطرس لشخص متطرف كنتنياهو.
والحوار المتخيل الذي توهّمه نتنياهو بين هتلر والحسيني كان شرارة أطلقت سلسلة من «هاشتاغات» على «تويتر». غلب على الجانب الإسرائيلي الهزء بنتنياهو، وغلب على العربي منها المديح بالمفتي الحسيني.
يكاد هذا الوجه الما بعد حداثي من تقنيات الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي أن يقوض التاريخ؛ فمن جهة، نتنياهو يحاول تطويع الحقائق التاريخية عبر وضعه المفتي الحسيني في قلب الصراع الحالي، في المقابل، غلب على الجبهات الفلسطينية تمجيد واحتفاء بالمفتي الحسيني، علما بأن الرجل جسد «وطنية» متطرفة، وهو من اتخذ مواقف أساءت للحق الفلسطيني خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال دعم النازية وتقاضي مرتبات ثابتة منها، بل وتجنيد كتيبة من عناصر بوسنية للقتال مع هتلر آنذاك.
لا بد من الرد على نتنياهو بتنديد متلازم لجرائم النازية وجرائم الصهيونية أيضًا، إذ لا تستقيم إدانة واحدة منهما دون أخرى.
الأيام الأخيرة شهدت «محاكمات» على الـ«سوشيال ميديا»، وهي محاكمات كشفت جوانب مختلفة من الصراع؛ ميلاً متصاعدًا لليمين الإسرائيلي لشيطنة الفلسطينيين ولو كان ذلك على حساب قضيتهم الأم، أي المحارق، وميلاً فلسطينيًا عربيًا متجددًا، إما للتهوين من محارق اليهود، أو أحيانا المباهاة بها.
حاول نتنياهو الإساءة إلى الفلسطينيين عبر اتهام مفبرك للحسيني بفكرة المحارق.. الدفاع الفلسطيني عن وطنية مزعومة للحسيني مثّل إساءة أخرى للقضية الفلسطينية.
diana@ asharqalawsat.com