يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

تفجير تركيا وتجذير الإرهاب

دخول روسيا في المنطقة بهذا الشكل العبثي في ظل ترهل مؤسسات المجتمع الدولي وغياب الصوت الفاعل للولايات المتحدة، يعني أننا دخلنا مرحلة «تجذّر» الإرهاب في المنطقة، وتجذيره باعتباره ليس محرّكًا للفوضى السياسية وباعثًا لها، بل مؤثر في التمهيد للتعامل معه لاعبًا أساسيًا يحق له التفاوض وتبادل مواقع النفوذ والتأثير، كما يحدث في مواقع متعددة في الشام والعراق.
التغيير في الموقع التركي تجاه «داعش» وإن كان مجزأً كما هو الحال مع الدول التي تتعامل مع مسألة الإرهاب بشكل جزئي حيث لا فرق بين إرهاب الجماعات المتطرفة ذات المنزع السني وتطرف الميليشيات الشيعية التي تجوب مناطق التوتر طولاً وعرضًا في ظل صمت إقليمي وإدارة إيرانية مركزية تتدخل حتى في تفاصيل المعارك اليومية، فمن صرح سابقًا بأن إرهاب «داعش» لا يستهدفه، يصاب اليوم بطلقة غير طائشة في صميم قلب الوحدة التركية كما لم يحدث من قبل، والهدف يبدو واضحًا وذكيًا على مستوى الفاعل، فتنظيم داعش، وأغلب أصابع الاتهام تشير نحوه، يدرك جيدًا أن استهداف أكراد تركيا من الموالين لقيام دولة كردية في سوريا، يعني قلب الطاولة عليهم بعد أن كانوا هم أكثر الكتل المقاتلة ممانعة لتنظيم داعش الوحشي والعبثي في استهدافه الاستراتيجي والقارئ بشكل جيد لتحولات المنطقة.
إضعاف هيبة الدولة هدف أساسي لـ«داعش» في كل عملياته في المنطقة؛ لذلك حين طالبت السعودية بالتصدي الجاد للتنظيم عبر حملة دولية تكافح الإرهاب دون تمييز أو تجزئة تلكأت دول كثيرة تصاب اليوم بفزع تحول التنظيم إلى موجة طافحة بالعدمية يمكن أن تحرق كل شيء، بعد أن أصبح وجود القوى العظمى، وعلى رأسها الدب الروسي الذي يسعى للصعود لقمة الجبل مجددًا، مبررًا لدى مجموعات كثيرة ترى عدم وجود خيار حقيقي غير مسلح للخروج من مأزق عسكرة المنطقة أو تفخيخها بجماعات الموت والرعب المجاني، وهو مبرر يتصاعد بشكل كبير بعيد عن أي خطابات غلو تغذيه أو مرجعيات عنفية تدعمه، فهو يملك سبب تضخمه من تفاقم الأوضاع، ولذلك كلما تأخر قرار الحسم بالتصدي للإرهاب في المنطقة خلقت دوافع غير آيديولوجية لتفجير الأوضاع أو ما يمكن تسميته «العدمية العنفية»، وحينها لا تجدي خطابات الاعتدال المفقود أصلاً، ولا حتى برامج التأهيل والدعم النفسي، لأنها ستكون قد تجاوزها قطار الإرهاب الأعمى.
نوعية العملية تلقي بظلالها على تحولات جديدة، فاستهداف قيادات بارزة في تنظيم داعش، ومحاولة تشكل حلف غير مكتمل لمحاربته، يفضيان به لأن يقوم بالتخطيط لعمليات نوعية، مثل الهجوم على المركز الثقافي بالبلدة، الذي يضم مجموعات من الناشطين الأكراد، وهذا يعني تلغيم الحالة السياسية أكثر من إظهار ضعف الأمن أو تقويض حالة السلم المجتمعي، لذلك يمكن القول إنها ضربة «نوعية» أودت بحياة سبع وتسعين ضحية إلى ما يقارب 250 مصابًا.
الثمن باهظ جدًا لتتخذ دولة بحجم تركيا قرار محاربة الإرهاب، لكن السؤال كيف ستكون ردة الفعل ما بين الانكفاء على الذات ومحاولة صيانة اللحمة الداخلية، واستهداف «داعش» في عقر دارها دون تمييز وليس مجرد انتقاء مجموعات معارضة، وما يتبع ذلك من موقفها حيال الأزمة السورية برمتها.
السير منفردًا في نفق الإرهاب الفوضوي لن يقود أي دولة من الإقليم إلى باحة الاستقرار، ما لم تجتمع دوله بالتعاون برعاية دولية إلى إعادة مفهوم الإرهاب والحرب عليه إلى صيغ توافقية لا مجال فيها للانتهازية السياسية، فالإرهاب اليوم في صيغته الحالية المتطورة يسعى لأن يكون متجذرًا وليس حالة طارئة، وبالتالي فهو أكبر مهدد للدولة الحديثة، باعتباره مضادًا لها في الآليات والوسائل في اتجاه معاكس، إرهاب اليوم يحمل ملامح الدولة قبل أن يحوزها على الأرض، فهو يعبر عن منظومة متكاملة أكثر تعقيدًا من جماعات العنف السابقة، ومن دون القضاء عليه سيأتي اليوم الذي يفاوض على تبادل النفوذ والجثث!