أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

سوريا والعالم.. انتصار أم مساومة؟

مع هيمنة المأساة السورية على عناوين الصحف العالمية، تحولت نغمة «لا بد من فعل شيء ما» لتكون حثًا على «الفعل المباشر».
يتحدث الجميع تقريبًا، من موسكو إلى واشنطن ومرورًا بباريس حتى لندن، عن «الحل السياسي» عبر المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة.
وتكمن المشكلة في أن أولئك المتشدقين بالوصول إلى حل سياسي لا يتفقون بالأساس على ماهية المشكلة.
وحتى الأسبوع الماضي، وقفت القوى الغربية على تعريف للمشكلة بأنها إحدى مشاكل نظام استبدادي يستخدم الإرهاب والمذابح لإسكات أمة متمردة. ونظرًا لأن بشار الأسد هو الواجهة الأولى لهذا النظام أمام العالم، كانت الفكرة المطروحة أن وفاة بشار ينبغي أن تكون عنصر الحل السياسي الأول لتلك المشكلة.
والآن، ورغم كل شيء، فإن أغلب القوى الغربية، بدءًا بالولايات المتحدة، قد أسقطت من حساباتها طرح «ضرورة رحيل الأسد». وتعتبر سوريا، بالنسبة إليهم، دولة ذات سيادة تعرضت للهجوم من قبل الإرهابيين الأجانب. والحل المطروح هو مساعدة الأسد في القضاء عليهم.
إن تحديد ما يجري في سوريا ليس بالأمر اليسير.
بدأ الأمر برمته كانتفاضة شعبية ضد النظام المستبد الذي جنح إلى قمع كافة أوجه المعارضة في الداخل. دفع ذلك بعض عناصر الانتفاضة إلى اللجوء لحمل السلاح، وتحولت حركة المعارضة إلى حرب أهلية.
وتكمن المشكلة أيضًا في أن مصطلح الحرب الأهلية ذاته لا يكفي تمامًا لتوصيف الوضع السوري الحالي.
فالحرب الأهلية تندلع عندما تتفرع العناصر الوطنية النشطة داخل الدولة الواحدة إلى معسكرين يتمتعان بقدر متساو، يزيد أو يقل، من القوة المسلحة.
وليس ذلك هو الموقف الحقيقي في الأزمة السورية.
يتمتع نظام حكم الأسد بقاعدة تأييد شعبية كبيرة، وخصوصًا بين الطائفة العلوية وإلى درجة جيدة داخل الطائفة المسيحية السورية. ولكن قاعدة التأييد تلك ليست واسعة بدرجة كافية لتقسيم الأمة إلى معسكرين يتمتعان بقوة متساوية. ومما يزيد في تزييف ميزان القوة في الداخل السوري هو التفوق العسكري الكبير الذي يتمتع به النظام الحاكم، وعلى الأخص القوة الجوية الكبيرة، والتي تساعد كثيرا في تمويه نقاط الضعف النسبية في قاعدة التأييد الشعبية للرئيس الأسد.
ومن الخصائص الأخرى للحرب الأهلية هي غياب، أو على أدنى تقدير، التأثير الثانوي للمقاتلين الأجانب في كلا المعسكرين.
ومرة أخرى، ليست تلك هي الحالة في سوريا.
وفقا لتقديرات شديدة التحفظ، هناك نحو 20 في المائة من تعداد الرجال المقاتلين في صفوف نظام الأسد هم من الأجانب، وهم تحديدًا «المتطوعون» القادمون من فروع تنظيم حزب الله اللبناني المدعوم من إيران، ومن العراق وأفغانستان.
ومن جانبه، استقطب المعسكر المناوئ لنظام الأسد أعدادًا كبيرة من المتطرفين من أكثر من 80 دولة.
ويستفيد كلا المعسكرين من الدعم المالي واللوجستي والدعائي الحيوي للغاية من جانب القوى الأجنبية.
ليست هناك حرب أهلية، بطبيعة الحال، تندلع من دون بعض اللمسات الأجنبية عليها. حتى في أول وأكبر حرب أهلية اندلعت في التاريخ، وكانت بين اثنين من كبار الجنرالات في روما القديمة، ماريوس وسولا، استخدم كلاهما المرتزقة الأجانب وكانا يتلقيان الدعم المالي من الأنصار في الخارج. وكانت الحرب الأهلية الإسبانية بين عامي 1936 و1939 بروفة مصغرة للحرب العالمية الثانية مع القوى الفاشستية والسوفياتية تدعم كلا المعسكرين المتصارعين في الداخل.
أما في الحالة السورية، رغم ذلك، يعد التدخل الأجنبي أكثر في أهميته مما كان عليه الأمر في الحروب الأهلية في روما القديمة أو إسبانيا المعاصرة. وبعض جوانب الوضع السوري تجعله أقرب ما يكون بحرب الوكالة بين القوى المتصارعة في الخارج أكثر من كونه صراعًا محليًا دخليًا.
كثيرًا ما يعرج القادة الغربيون على نقطة وحيدة في خضم الأزمة السورية، وكان آخرها تعليق فيليب هاموند وزير الخارجية البريطاني، إذ قال إنهم لا يعرفون المعسكر الصالح من الطالح لدعمه في سوريا.
في غالب الأحيان ليس هناك معسكر صالح في أي حرب أهلية.
حتى لو تكون المعسكرين في بداية الأمر من مجموعة من الصبيان المتعاركين فإنهم سرعان ما يسقطون في دوامة العنف الوحشي المريع الذي تفرضه قواعد الحروب الأهلية.
ماريوس أو سولا، القيصر أو بومبي، أيهما كان أبيض اللون أو أيهما كان أسود؟ لا يتوقف ذلك إلا على وجهة نظر المراقبين وتقدير المصالح.
وفي الحرب الأهلية الفرنسية التي أعقبت «الثورة العظمى» كان متمردو الفيندي، الذين عبر عنهم بالزاك في «الشوان» وترولوب في «فيندي»، ليسوا أقل عنفًا وقهرًا من جلادي المقصلة في باريس.
كذلك، في الطرح الرومانسي للحرب الأهلية الأميركية، والتي كانت حربًا انفصالية حقيقية، كان معسكر الشمال يمثل الطرف الصالح ومعسكر الجنوب الطرف الطالح. ومع ذلك، كان للشمال نصيبه الحقيقي من جرائم الحرب المروعة، ناهيكم عن ذكر الخراب الذي أحدثه «حاملو البساط» الذين وصلوا إلى الجنوب في أعقاب الهزيمة الشهيرة.
ونرى أيضًا في العرض الرومانسي للحرب الأهلية الإسبانية أن الجمهوريين كانوا هم الأخيار بينما كانت الكتائب التي يقودها الجنرال مولا والجنرال فرانكو هم الأشرار. ومع ذلك، ارتكب كلا الفريقين قدرًا من الفظائع تخلع عليه أدبياتنا المعاصرة وصف «جرائم ضد الإنسانية».
فماذا عن الحرب الأهلية الروسية بين عامي 1918 و1921؟
هل لو كان النصر حليفًا لـكولتشاك ودينيكين سيجعل من روسيا مكانًا أفضل من تلك التي يحكمها لينين وتروتسكي وستالين الذين انتصروا في تلك الحرب؟
إن القاعدة الأولى الناجعة في الحرب الأهلية هي: البقاء على قيد الحياة.
ويعني ذلك المقدرة على مشابهة ومماهاة العدو إلى أقصى قدر ممكن. فإذا اتسم الخصم بقدر كبير من الوحشية، فعلى المعارض كذلك أن يتسم بنفس الصفة ولا أقل منها.
وبالتالي لا داعي للمفاجأة إذا رأينا قوات الأسد تعمل سكاكين الذبح في رقاب الثوار.
لما أراد لينين من فرونز القضاء على شعب القازاق وإزاحته من على الخريطة أرسل إليه برقية موجزة مفادها: «استول على بهائمهم، واقتل رجالهم، واطرد نساءهم وأطفالهم خارج حدودنا».
كان والد «الاشتراكية العلمية» في العالم يقلد شيوخ قبائل القازاق في قتالهم ضد أعدائهم تقليدًا أعمى.
أبدًا لا تنتهي الحرب الأهلية بالتعادل أو الإنصاف. يتعين على أحد المعسكرين تحقيق الانتصار الساحق حتى لو كان نصرًا باهظ الثمن للغاية.
ويتقبل الخاسر الاستسلام غير المشروط أو يفر إلى المنفى كما كان الحال مع المعسكر الجنوبي في الحرب الأهلية اليمنية لعام 1994.
يسعى وزير الخارجية الأميركي جون كيري لعقد محادثات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف للترتيب لوقف إطلاق النار. وليس ذلك إلا مباهاة دبلوماسية جوفاء. فالحروب الأهلية لا تنتهي أبدًا بوقف إطلاق النار، وخصوصًا تلك التي يتفاوض عليها الغرباء من غير أهل الوطن.
شهدنا منذ الحرب العالمية الثانية أكثر من 240 حربًا أهلية على مستوى العالم، وبعضها استمرت نيرانها مشتعلة لعقود.
وفي بعض الحالات، ساهم العالم الخارجي في إنهاء الحرب الأهلية عن طريق سحب الدعم المقدم لأحد الجانبين المتصارعين، على سبيل المثال لما سحبت الصين البساط من تحت أقدام هولدن روبرتو في أنغولا، أو عن طريق زيادة المساعدات الممنوحة لسحق المعارضين كما كان الحال مع الدعم الغربي المقدم إلى يوري موسيفيني في أوغندا.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية حالة خاصة نظرًا للتركيبة الطائفية في هذا المجتمع الذي ذاق مرارة الحرب. وبسبب أنه كان هناك أكثر من معسكر واحد في تلك الحرب، تعذر أن يكون الهدف هو النصر الساحق لأحد المعسكرات على الأخرى. وبالتالي، منح ذلك الوضع للقوى الخارجية النفوذ الكبير لفرض التسوية على وكلائهم في الداخل.
فهل بإمكان العالم الخارجي الوصول إلى حل مشابه بالنسبة لسوريا التي انقسمت حاليًا إلى عدد من الكيانات المتمتعة بحكم شبه ذاتي تسيطر عليه في غالب الأحيان النزعات الطائفية؟
لا تحبسوا أنفاسكم كثيرًا أيها السادة.