أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الرمز الحي للنموذج التركي

عند مشاهدتي لوقائع محاكمة محمد مرسي على شاشة التلفاز منذ أيام قليلة، وجدت نفسي أتأمل حالة أولئك الزعماء الذين يسقطون ضحية تقلبات الدهر السياسية. ووجدت الكثير من الأسئلة وقد فرضت نفسها مثل: كيف يتماشى هؤلاء الزعماء مع المصير الذي فرضه عليهم القدر؟ وهل هم عطشى للانتقام؟ أم أنهم – وهم يعقدون آمالهم على حكم التاريخ عليهم – حاولوا الخروج من معضلة إملاءات المكان والزمان؟
في الغالب، يلعب النهج، الذي تبناه هؤلاء الزعماء، دورا محوريا في صياغة الطريقة التي تسير عليها السياسة في بلادهم، إما للأفضل أو للأسوأ.
عندما أعفاه الشاه من منصبه في أغسطس (آب) من عام 1953. قرر رئيس وزراء إيران، دكتور محمد مصدق، أن ينأى بنفسه عن دوائر الحكم وقضى سنوات عمره التالية في خصومة مع التقاليد الإيرانية الراسخة. وقد أدت تلك الخصومة إلى تعميق الانقسامات داخل مؤسسة الحكم في إيران، وهو ما أدى إلى استيلاء الملالي على السلطة في طهران بعد أكثر من ربع قرن على ما حدث للدكتور مصدق.
أما في أفغانستان، فقد أضمر محمد داود خان شكلا من أشكال الكراهية المرضية لابن عمه الملك محمد ظاهر شاه الذي أعفاه من منصبه كرئيس وزراء أفغانستان. وعلى مدى سنوات من تغذية تلك الكراهية، عمل داود – عن طريق استخدام شتى أنواع المؤامرات – على إسقاط حكم ابن عمه الملكي. لكن الاستراتيجية التي اتبعها داود خان كلفته حياته، وأدت في نهاية الأمر إلى استيلاء الشيوعيين الموالين للاتحاد السوفياتي على السلطة في أفغانستان.
وبمواصلة تصفح ألبوم الذكريات التاريخية، تذكرت محمود جلال الدين بايار، الرئيس الثالث للجمهورية التركية وواحد من أهم رجال الدولة - وأكثرهم تجاهلا في نفس الوقت - في العالم الإسلامي الحديث.
في عام 1960، وقع بايار ضحية أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية التركية، وحكمت عليه محكمة صورية بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى. ثم جرى بعد ذلك تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة. غير أنه أطلق سراحه بعد أربعة أعوام قضاها في السجن.
وكان الكثيرون يرون بايار رمزا للاتجاه الإسلامي في تركيا المعاصرة، لا سيما وهو يُعد مؤسس وزعيم الحزب الديمقراطي، الذي فاز بأول انتخابات عامة حرة في تاريخ تركيا.
وكان هناك الكثير من الأسباب التي وقفت وراء المعاملة السيئة التي تعرض لها بايار. وكان بايار - الذي يتحدر من إحدى العائلات البلغارية المسلمة التي هاجرت لتركيا – قد كرس حياته للجمهورية التركية. كما كان أحد المقربين لمؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك. وشغل بايار الكثير من المناصب الهامة، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء، قبل وصوله إلى قمة السلطة في تركيا.
هناك ملمح رئيسي في مسيرة بايار يتشاركه الرجل مع الكثير من زعماء العالم وهو أن الرجل الذي نصبه قائدا للقوات المسلحة، وهو الجنرال جمال غورسيل، هو الذي قاد الانقلاب ضده.
أما الدكتور محمد مصدق، فقد قاد الانقلاب ضده الجنرال فضل الله زاهدي، الذي عمل قائدا للشرطة في عهد مصدق. وكان محمد داود خان قد ادعى أنه هو صاحب الفضل في تنصيب محمد ظاهر شاه ملكا لأفغانستان.
كما ثبت صحة فكرة أن المرء يتعرض للخديعة من أقرب الناس إليه في الكثير من الحالات الأخرى. ففي باكستان، جرى إسقاط حكم وإعدام ذو الفقار علي بوتو من قبل الجنرال محمد ضياء الحق، الذي عينه بوتو قائدا للقوات المسلحة. وبعد ذلك بسنوات عدة، أُسقط حكم رئيس الوزراء نواز شريف على يد برويز مشرف، قائد الجيش الذي اختاره شريف بنفسه. كما لا ينبغي أن ننسى أن الرئيس سلفادور اليندي هو الذي اختار الجنرال أوغستو بينوشيه قائدا للجيش في تشيلي. أما في تونس، فقد وضع الحبيب بورقيبة ضابط شرطة ذا رتبة متوسطة، هو زين العابدين بن علي، على قمة السلطة، وهو ما أدى في النهاية إلى تلقي بورقيبة طعنة في الظهر بيد بن علي.
لكن حالة محمود جلال الدين بايار دائما ما تقفز إلى مخيلتي.
في عام 1970 كنت أقوم بتغطية زيارة وزير الخارجية الإيراني أردشير زاهدي لأنقرة بصفة أنني مراسل دبلوماسي، وتساءلت حينها عما كان يفكر فيه بايار، ذلك الرجل الطاعن في السن. خلال فترة رئاسته لتركيا، زار بايار طهران، ووضع اسمه على أحد الشوارع في قلب العاصمة. وبعد انقلاب عام 1960، طالب الجنرالات إيران بتغيير اسم الشارع، لكن الإيرانيين رفضوا ذلك الطلب. كان زاهدي يكن كثيرا من الاحترام لبايار الذي لعب دورا كبيرا في إنشاء تحالف عسكري يضم تركيا وإيران والعراق. وبفضل توصية من إحسان صبري، وزير خارجية تركيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وافق بايار على مقابلتي أنا وزميل صحافي آخر. لم نستطع الحصول على أي انفرادات صحافية خلال ذلك اللقاء، إذ إن بايار لم يكن مستعدا للحديث عن «الماضي الذي مضى» لأن ذلك «مهمة المؤرخين». كما لم يكن مهتما بأن يشكو المعاناة الشخصية التي خبرها في السجن وفي المنفى الداخلي. كما لم يظهر في حديث الرجل أي أثر لمرارة الحرمان من الحقوق المدنية، أو المراقبة الدائمة لمسكنه التي يقوم بها عناصر الأمن السري.
لكننا سألنا الرجل عن المستقبل، فأجاب بإصرار «هذا ما ينبغي أن يهتم به الجميع. يجب علينا جميعا أن نوجه جهودنا إلى كيفية خلق مستقبل أفضل لتركيا». في ذلك الوقت الذي كنا نتبنى فيه رؤية ساخرة عن السياسيين، اعتبرنا ذلك التصريح محاولة من بايار للفوز بمنصب في الحكومة، وعدم السعي لإزعاج الجنرالات، الذين كانوا ما زالوا يمسكون بخيوط السلطة بأيديهم.
لكن الأيام أثبتت خطأ وجهة نظرنا تلك.
ففي عام 1974، عرض الجنرالات على بايار أن يصبح عضوا في البرلمان مدى الحياة، لكن الرجل رفض ذلك العرض وقال: إنه يرى أن لا أحد يستحق هذا المنصب إلا إذا كان منتخبا من الشعب التركي. وحتى وفاته في عام 1986 عن عمر يناهز 103 عام، كان بايار رمزا للصبر والتحمل عندما قدم مصلحة بلده على خيبة الأمل التي كان يشعر بها.
لم يدع بايار لمقاطعة السلطة الجديدة في البلاد، ناهيك عن الدعوة للجهاد ضد من أساءوا إليه.
لقد قرر بايار السباحة ضد تيارات ثقافة الشرق الأوسط التي تروج للانتقام والكراهية والحلول الوسط وعبادة الأشخاص الذين يسعون لإشعال النيران بدلا من أولئك الذين يسعون لإطفائها. لقد أجبر بايار، بسلوك رجل الدولة الذي انتهجه، الجنرالات على أن يعاملوه بالمثل. لقد أسس بايار قاعدة غير مكتوبة أضحت مقبولة على نطاق واسع في الساحة السياسية التركية العاصفة، ألا وهي أنه لا ينبغي على كائن من كان أن يمسك بسكين ويغمده في أي جرح من أجل تصفية حسابات شخصية. وخلال السنوات القليلة الماضية، تحدث وكتب الكثيرون عن «النموذج التركي». لكن بالنسبة لي، أرى أن بايار، ذلك الرجل الطاعن في السن الهادئ، هو الرمز الحي لـ«النموذج التركي».