إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

جمعة رمضانية دامية

كان يوم الجمعة الماضي يومًا رمضانيًا مؤلمًا حزينًا، غير أنه ما عاد مقبولاً الاكتفاء بالإعراب عن الأسى وإبداء الاستنكار وإطلاق الدعوات اللفظية إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية.
هذا كله لا يجدي، ولا يعني شيئًا بعد تكرار استهداف المساجد واستمراء قتل الأبرياء.
قد يفسّر بعضنا تفجير مسجد الإمام جعفر الصادق في الكويت بتنامي التوتر المذهبي في منطقة الخليج، بعدما زرعت الثورة الخمينية ريح التطرّف فحصدنا جميعًا الفكر «القاعدي» والفظائع «الداعشية».
وما حدث في تونس يُمكن أن يُعزى إلى شطط في المرارة المتراكمة داخل بيئات تونسية متديّنة ردًا على حقبة العلمنة البورقيبية، وهو ما جعل عدد المسلحين التونسيين في مقدمة أعضاء التنظيمات المتطرّفة المقاتلة في سوريا، ثم تفاقم بتأثير الفوضى الليبية وامتدادات تيارات الصحراء الكبرى.
وأما العملية البشعة الجديدة في فرنسا فقد يصرّ المدافعون عبثًا على القول إنها إفراز طبيعي للغربة الثقافية والتمييز الديني والعنصري وهروب من بيئة رافضة وطاردة عرقيًّا.
لكل من الجرائم الثلاث التي وقعت في يوم واحد وتوزّعت على ثلاث قارات، خصوصيّات محلية. لا شك في ذلك. لكن القاسم المشترك أكبر وأخطر، وهو الأصل وغيره فروع. ويعود للمسلمين – وبالذات العرب منهم – الخيار إما بتجاهل الحقيقة المرّة وترك المرض يستشري حتى يقتل، أو الإقرار بوجوده تمهيدًا لمعالجته بصورة جذرية.
ثم إن الجرائم الثلاث جزءٌ من كل. جزءٌ من جُملة ممارسات جرمية تُرتكَب باسم «الإسلام الصحيح» في مختلف أنحاء العالم منذ عدة سنوات، لكنها لم تلقَ حتى اللحظة الردّ الحازم عليها، مع أنها تزّج المسلمين في حرب فعلية مع العالم بأسره. والأسوأ من هذا، أن المجرمين إما يسعون سعيًا إلى هذه الحرب العالمية مع مَن يرونهم أهل «دار الحرب»، أو لا يقيمون وزنا لموقف العالم، مع أنه ليس ضعيفًا إلى الحد الذي يحول دون شنه حرب إفناء، أما ما يمنعه من ذلك فمؤسساته الديمقراطية وما تبقى في تلك المؤسسات من قيم احترام لحقوق الإنسان.
إن قتل الأبرياء في الكويت وشواطئ تونس ومنطقة الإيزير في فرنسا، بالأمس، لا ينفصل إطلاقا عما ارتكبته، ولا تزال ترتكبه، تنظيمات مثل «داعش» و«القاعدة / النصرة» و«بوكو حرام» و«الحشد الشعبي» و«حزب الله» و«كتائب أبو الفضل العباس» و«حركة الشباب (في الصومال)» و«طالبان» ومختلف أشكال الجماعات الإسلامية المسلحة – سنيّة كانت أم شيعية –... باسم «الإسلام الصحيح». وهنا أذكر أنه في يناير (كانون الثاني) الماضي، بعد الهجوم القاتل على مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة، وسيل الاستنكارات من عرب ومسلمين للهجوم بحجة أنه «لا يعبّر عن الإسلام الصحيح»، كتب الزميل نديم قطيش تعليقًا أصاب الهدف تمامًا.
ومما كتبه الزميل العزيز، يومذاك، متسائلاً «.. فما هو (الإسلام الصحيح) الذي ينبغي أن يتحفنا به مُدينو الجرائم المرتكبة باسم الإسلام، وأين هي المواجهة الأبعد من الإدانة التي انخرط فيها أنصار الإسلام الصحيح، منذ هزيمة المعتزلة في الإسلام، أي هزيمة العقل في الإسلام قبل ألف ومائة عام؟..».
وبعدما عدد قطيش أمثلة كثيرة لجرائم متطرّفي السنّة والشيعة، قال إن أولئك الذين ارتكبوها «... ينتمون جميعًا إلى هذا (الإسلام الصحيح) بكل تفاصيله ومتونه وهوامشه. ينتمون إلى فقهِه الفسيح.... وهنا أرض المعركة. النص الإسلامي نفسه، أكان نصًا قرآنيًا أم فقهًا أم حديثًا نبويًا. فالقتلة لا يقتلون مجانًا بل يقتلون باسم كتبٍ وفتاوى وتراثٍ مديد..، هي جزء لا يتجزأ من (الإسلام الصحيح). وهم مسلمون طالما أنهم ينطقون بالشهادتين وطالما لم تتجرأ المؤسسة الدينية على تحديث معايير الانتماء إلى الإسلام. هؤلاء القتلة هم نحن. هم ديننا بصورته القصوى. هم (إسلامنا الصحيح) مأخوذًا إلى مداه الأبعد. وهؤلاء ليسوا خارج النص..».
في اعتقادي هنا مربط الفرس.
إن ثمة أزمة حقيقية في صميم تفكيرنا، ينجُم عنها سوء ممارساتنا، وانتقالنا من نكسة إلى نكبة، ومن نكبة إلى دمار. وهذه الأزمة، بطريقة أو بأخرى، أسهمت في سلبية التعاطي الدولي مع قضايانا، لأن المجتمع الدولي ليس مضطرًا للقبول بمفاهيمنا إذا كانت تتناقض مع مفاهيمه.
ومن ثم، كيف لنا أن نطالبه بالوقوف معنا من منطلق احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين عندما يخرج من بيئاتنا أفراد وجماعات يحتكرون الإيمان والدين والفضيلة والشرعية والوطنية؟ بأي حق نناشد دول العالم التدخّل لمصلحتنا والتخفيف من معاناتنا، إذا كنا نحن لسنا ضدها فحسب، بل أيضا ضد شعوبنا أيضًا.. نمعن في قتل بعضنا بعضًا وتكفير بعضنا بعضًا وتخوين بعضنا بعضًا؟ بأي منطق نتصوّر أن تطرّفنا جذاب للآخرين، وأن ميلنا إلى الإقصاء والإلغاء يمكن أن يحيّدهم؟
نحن نرفض أن نفهم «السببيّة»، والفعل وردّ الفعل..
مثلاً، في العراق، حيث لا تبعد مواقع «داعش» المتقدّمة عن عاصمته سوى 50 كلم، هناك 7 آلاف سنّي مهدّدون بالإعدام إذا ما أزيل شرط توقيع رئيس الجمهورية، ومع هذا تتصرّف القيادة المدعومة من إيران والمرتبطة بها سياسيًا وميليشياويًا وكأنها آخر من يعلم، وآخر من يكترث بالعواقب.
وفي سوريا، مع مواصلة النظام، الذي غدا «تفصيلاً» صغيرًا تابعًا لطهران في تقاطع المخطّطات الإقليمية، تعيش المعارضة سباقًا مع الوقت لضبط أجنحتها المتطرّفة التي لم تستوعب حتى اللحظة أنها بتطرّفها أطالت عمر نظام كان قد فقد شرعيته وولاء الكثير من مكوّنات الشعب.
وفي لبنان واليمن يدفع أتباع المخطّط الإيراني، بقوة السلاح، البلدين إلى «شفير هاوية» مذهبية مدمّرة، مع ادعاء حزب الله وجماعة الحوثي أمام الولايات المتحدة أنهما طليعة حربها على «التكفير» السنّي بوجهيه «الداعشي» و«القاعدي». وفي هذا استخفاف بردّات الفعل الدامية الحتمية التي شاهدناها ونشاهدها اليوم في كل مكان، بما فيها دول الخليج التي كانت ولا تزال آخر معاقل الاعتدال والاستقرار في الشرق الأوسط.
لقد انتهى وقت الأعذار والاعتذار، وآن أوان العلاج الجذري.