سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الجسر

توقف أمين الريحاني أمام جسر بروكلين أوائل القرن الماضي، وخامره شعور بأن هذه إحدى عجائب الدنيا التي لم تصنَّف بعد. وفي حس الرحالة والصحافي، راح يكتب أسباب انبهاره. ومن دون أن أتذكر إطلاقًا ذلك المغامر العجيب، ذُهلت قبل سنوات وأنا أتأمل الجسور المعلقة فيما السيارة تخرج بنا من مانهاتن، أحد قطاعات المدينة الخمسة. ولم نأتِ بعد على ذكر الأنفاق تحت المياه.
تأمل الريحاني القادم من قرية لبنانية صغيرة حركة الناس في المدينة، وعربات الخيل، وصخب العمل، وتراكض الناس، وتعدد وجوه الغرباء مثله، وعلو المباني، وعدد المراكب، وتساءل: كيف يدار كل هذا؟ ولا أدري أي سؤال كان سيطرح اليوم، إذ تدخل المدينة وتخرج منها 8 ملايين سيارة كل يوم؟ هل هذه «تحفة النظَّار في غرائب الأمصار»؟
كان يقال في الستينات إن مطار بيروت هو الرابع في العالم. وكنا نضحك مما نعتبره مبالغة. لكن ربما كان كذلك يومها. فهو نقطة وصل بين الشرق والغرب. وطائرات تلك الأيام لا تقوم بالرحلات الطويلة مثلها الآن، بل تتوقف للتزود بالوقود. وكان عدد شركات الطيران محدودًا ومعروفًا. وما بين الإقلاع من نيويورك والهبوط في باريس قرأت على الطائرات أسماء شركات أكثر من شركات التاكسي. وهناك 8 رحلات يوميًا إلى باريس للشركة الفرنسية وحدها، معدل كل رحلة منها 500 مسافر. كيف تدير باريس ونيويورك ولندن ودبي حركة الطيران في الجو وعلى أرض المطارات؟ لا أدري. أعرف أنني كنت أخرج في مطار أورلي من الطائرة إلى الجمارك، والآن في مطار شارل ديغول، عليّ أن استقل القطار الذاتي إلى مطار آخر، ثم السلالم المتحركة إلى مطارين آخرين وبينها سجادات متحرِّكة.
أبدو، بعد نصف قرن من الأسفار والديار والأمصار وتحف النظّار، قرويًا مثل الريحاني. كل الأشياء نسبية. وعندما كنا نسخر من القول إن مطار بيروت هو الرابع في حركة الطيران، لم نكن نتخيل أنه سيأتي يوم يكون فيه مطار دبي هو الأول.
العالم الحديث عالم سفر ومسافرين. وعالم هجرة. مهاجرو أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة يرسلون إلى أهاليهم كل عام نحو 350 مليار دولار. وبدل أن يفرضوا على أنفسهم تعلم الإنجليزية، التي هي لغة العالم، صارت الإسبانية اللغة شبه الرسمية الثانية. إذا كنت تجيدها، تزيد حظوظك في الحصول على عمل، من الطبابة إلى المحاماة إلى عامل في موانئ كاليفورنيا، التي تضم 150 ألف موظف، وتديرها امرأة.
كيف تدار هذه البلدان؟ لست أدري، كما قال إيليا أبو ماضي. كيف تُولَّد الكهرباء وتُوزَّع المياه وتقف الناس عند الإشارة الحمراء، ولا تمر عربات الحمير في الشوارع، وكيف تبقى ملايين الأميال من الطرقات دون حفرة؟ الجواب نفسه أعلاه! أعرف أن التكنولوجيا غيرت حياة البشر والأمم. وأعرف أننا لن ننضم إلى العصر قريبًا. نحن لا نزال معلقين بين «داعش» وكوريا الشمالية، الرفيق كيم، نجل كيم وحفيد كيم. جميعهم مبجَّلون.