د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

عن الحرب الجوية.. والبرية أيضًا؟

الإعلام العربي والأجنبي لا يكف عن الحديث عن الحرب البرية في حرب «عاصفة الحزم» الحالية؛ عن موعدها وما الذي يمكن أن يحدث فيها. جماعة الكلام، وجنرالات المقاهي، تريد أن تقلب الصفحة بسرعة، وأن تبدأ موضوعا جديدا يكون مثيرا لبضعة أيام حتى يبدأ الدفع في اتجاه صفحة أخرى عن نتائج الحرب التي لم تنته بعد. الحديث الجديد ليس ببعيد عن حديث سابق قريب عن مدى مغزى الحرب الجوية في إطار الصدام مع «داعش» التي اجتاحت مناطق من العراق وسوريا خلال العام الماضي، وأعلنت عن «خلافة» من نوع مروع. ساعتها كانت الولايات المتحدة مع تحالف دولي وإقليمي قد بدأت عملية القصف الجوي بهدف وقف التنظيم الإرهابي عن التوسع في مناطق جديدة؛ ثم بعد ذلك خفض قدرات هذا التنظيم، وجعل عمليات التجنيد التي يقوم بها مكلفة، ومؤخرا بدأت عمليات برية للجيش العراقي وقوات من البيشمركة الكردية في تقليص مساحة الدولة الوليدة. لم يستغرق ذلك أياما أو أسابيع ولكن شهورا، وربما احتاج الأمر إلى عام حتى يتم تحرير الموصل، وتنتهي التجربة الداعشية في العراق والشام. ما جرى ساعتها في ساحة الإعلام لم يختلف كثيرا عما نسمعه اليوم عن الحرب البرية، ووصل الحديث إلى إعطاء الدروس عن حدود استخدام السلاح الجوي، وأن المعارك الكبرى لا تكسب إلا على الأرض. كان في الحديث بعض من النكاية في الرئيس باراك أوباما، الذي أعلن أنه لن يضع أحذية عسكرية أو Boots في أرض المعركة، فظهر كما لو كان أنه ضد الحرب البرية كلية، ولكنه كان في الحقيقة ضد الحرب البرية التي يقررها الإعلام وجنرالات المقاهي.
وكان «تولستوي» في القرن التاسع عشر، على عكس «كلاوزفيتس»، هو الذي رأى أنه لا يمكن وضع نظرية شاملة للحرب تفسر كل الحروب وتصلح دليلا للحروب القادمة، مستندا في ذلك إلى فشل نابليون في تحقيق النصر على الروس في معركة «بوردينو» أثناء حملته على موسكو. ولكن الحقيقة أنه بقدر ما أن لكل حرب ظروفها الخاصة، فإن الحرب في النهاية تظل امتدادا للسياسة بوسائل أخرى؛ ولما كانت السياسة تحدد أهداف الحرب فإنها في هذه الحالة تحدد خصوصيتها. وحتى في معركة «بوردينو» فإن القائد الروسي الجنرال كيوتسيف Kutuzov كان هو الذي قال إن «الزمن والصبر هما أقوى المحاربين»، لأن هدفه السياسي لم يكن تدمير قوات نابليون، بقدر ما كان فشل نابليون في تحقيق هدفه السياسي في إخضاع روسيا القيصرية. هذه الحكمة تصلح للتطبيق في ظل ظروف أخرى متغيرة تماما تتعلق بالحرب في اليمن، فالهدف السياسي ليس إخضاع اليمن أو ضم أراضيه أو استغلاله بشكل أو آخر، وإنما إنقاذه من عملية الاستيلاء التي قامت بها جماعة صغيرة من «الحوثيين» بمعاونة دولة إقليمية هي إيران لإخضاع اليمن من الداخل لخطة إقليمية للهيمنة.
هنا فإن «الزمن والصبر هما أقوى المحاربين» بالفعل؛ وليس معنى ذلك بالضرورة استبعاد الحرب البرية والاكتفاء بالحرب الجوية، وإنما وضع ذلك في إطار خطة عسكرية لها ضروراتها ومحدداتها وأدواتها التي تناسب مراحلها المتتابعة. الحرب الجوية سواء كانت في حرب «كوسوفو» ضد صربيا، أو في حرب تحرير الكويت ضد عراق صدام حسين، أو ضد «دولة الخلافة» المزعومة قامت في الأساس، كما هو الحال في كل الحروب، على استغلال حالة تفوق شبه مطلقة خاصة بالسلاح الجوي. في هذه الحالات، كما في حرب اليمن الراهنة، كان أحد طرفي المواجهة يتمتع بتفوق شبه مطلق في السيطرة على الجو، ومعها القدرة على المتابعة والاستكشاف من مسافات بعيدة حتى في حالات القتال الليلي، الذي يعتمد على عمليات الاستشعار الضوئي أو الحراري. الأمر الطبيعي هنا أن تكون أسلحة الجو، ومرافق لها الآن الفضاء بالمراقبة عن طريق الأقمار الصناعية، تكون هي الوسيلة الأولى لتحقيق التآكل المتدرج لدى الخصم المحدد الآن في جماعة الحوثيين وحلفائها من جماعة علي عبد الله صالح العسكرية التي نقضت التزاماتها إزاء المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية بطريقة سلمية، منذ نشبت الثورة على حكم الرئيس اليمني السابق.
الحرب الجوية أيضا ليست معلقة فقط في الهواء في انتظار مستقبل غير منظور؛ وإنما هي جزء من عملية التعبئة الدولية لتحقيق أهداف «عاصفة الحزم»، والتي أثمرت في النهاية عن قرار مجلس الأمن الذي أخذ القضية كلها ووضعها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي بمقتضاه تحدد الطرف المعادي للمجتمع الدولي وإقرار الأمن والسلم فيه. هنا فإن اللغو الإيراني، وحتى الروسي السابق على القرار، وغيرهم في الولايات المتحدة وأوروبا وحتى لدى بعض الدول العربية، بالاختباء خلف عنوان «الحل السياسي» للأزمة بهدف تمييع القضية اليمنية أصبح غير ذي بال، بعد أن بات الحل لا يعني التسليم بالعدوان الذي جرى منذ بدأ الهجوم الحوثي على الحكومة اليمنية الشرعية. وعلى العكس تماما فإن الحل السياسي أصبح ملخصا لأهداف الحرب في عودة الشرعية عبر مفاوضات تأخذ فيها كل الأطراف اليمنية حجمها الحقيقي في المعادلة السياسية، وعبر خطوات واقعية على الأرض تعود بالأمور إلى أوضاعها السابقة على الاستيلاء على العاصمة صنعاء.
كل ذلك لا يعني أن الحرب البرية لن تحدث، فالمخطط العسكري لا يملك استبعادا لأي من خياراته المتاحة والممكنة؛ ولكن واجبه أنه بقدر ما يفتح أبوابا واسعة لحل سياسي، فإن البدائل لا بد وأن تكون حاضرة في ظل القاعدة التي أشرنا لها من قبل أن «الزمن والصبر هما أقوى المحاربين». ما يجري في الإعلام وعلى المقاهي، لا يكون دليلا لمن يأخذ «عاصفة الحزم» بالجدية التي تستحقها، لأنها جولة من جولات الحرب الكبرى التي تجري في المنطقة بين الدولة العربية وقوى الفاشية الدينية، التي ما دخلت بلدا عربيا حتى كانت الوحشية والفوضى والدمار نصيبها. من هنا فإن الحرب البرية قد يأتي وقتها، ومن يظن أن طبوغرافيا اليمن تمثل رادعا لشنها، فإنه ينسى أولا أن طبوغرافيا اليمن ليست متماثلة في كل المناطق خاصة، إذا نسبت لأنواع مختلفة من الأسلحة؛ كما يتجاهل ثانيا أن الشعب اليمني متمسك بشرعيته؛ كما يتجنب ثالثا أن الحرب البرية سوف تأتي، إذا أتت، في تلك اللحظة التي تتآكل فيها قوى الحوثيين ومن ارتكب حماقة التحالف معهم. ساعتها سوف يكون التوازن الاستراتيجي على أرض اليمن مختلفا للغاية لصالح قوى الدولة العربية وشرعيتها، وضد قوى الهدم والتدمير والعمالة لقوى إقليمية أخرى.