د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

روما تُحرجُ أوروبا وأشياء أخرى

إن ما يشبه الانفجار، الذي تميزت به تصريحات وزير خارجية إيطاليا في الأيام الأخيرة، وتحديدًا في خصوص مسألة الهجرة السريّة عبر سواحل المتوسط، من الأهمية بما يجعله محلّ توقف وقراءة والذهاب في تحليله أكثر بكثير ممّا هدفت إليه روما نفسها.
طبعًا، من المهم وضع «السخط» الإيطالي في إطاره والتذكير أنه جاء نتيجة حادثة غرق نحو 400 من المهاجرين غير الشرعيين في سواحل المتوسط. مع العلم، أن هذا «السخط» ليس الأول من نوعه ولطالما كان معبرًا عنه بعد كل عملية تسلل، انتهت بفجيعة إنسانية في الأرواح. أما الجديد واللافت للانتباه أكثر من ردود الفعل الساخطة السابقة، فإنه يتمثل بالأساس فيما يمكن أن نصفه بالنبرة العالية والعلانية المفضوحة لمضامين التصريحات المشار إليها.
ظاهر التصريحات يقول – وهو ما يهم إيطاليا بالدرجة الأولى – إن وزير خارجية إيطاليا يطلب اعتمادات مالية من الاتحاد الأوروبي، كي تستطيع بلاده مجابهة تكاليف ومقتضيات إنقاذ المهاجرين من الغرق والموت في البحر.
ولكن، يبدو لنا أن هذه الرسالة تمويهية بامتياز، ذلك أن السلطات الإيطالية معروفة ببرودة أعصابها فيما يخص أرواح المهاجرين، وأنها منذ سنوات طويلة وهي تتبع سياسة الموت لمن يتسلل عبر حدودها البحرية. بل إن غرق المهاجرين غير الشرعيين لا يشكل في حدّ ذاته حدثًا يستحق التوقف. فهو حدث عادي يتكرر وسيتكرر، ووقوعه أفضل بكثير من نجاح عمليات التسلل والانفلات من الموت غرقًا. أي أن إيطاليا أبعد ما يكون عن الخوف على أرواح المغاربيين والأفارقة، الفئة الغالبة على مجموع المتسللين إليها. كما أنها ليست معنية لا من قريب ولا من بعيد بإنقاذ أرواحهم.
وهنا نطرح السؤال التالي: إذا كانت القضية عديمة الصلة بإنقاذ أرواح المهاجرين، فما هي إذن الرسالة المسكوت عنها؟
في الحقيقة، من الصعب القبول بفكرة أن إيطاليا أرادت فقط إحراج الاتحاد الأوروبي وتحميله المسؤولية وإبرازه في صورة غير المكترث بأرواح المهاجرين. فهي نعم - أي إيطاليا - تطلب الدعم المالي والمزيد من الاعتمادات.. ولكن، ليس من أجل إنقاذ أرواح من تعتبرهم أوروبا عبئًا ثقيلاً عليها ومشكلة عويصة من مشكلاتها، بل إن إيطاليا أرادت ممارسة نوع من الضغط، مستثمرة بذلك موقعها وساعية إلى كسب ورقة المطالبة بالدعم المالي. وتندرج هذه الاستراتيجية القديمة الجديدة في إطار التغييرات الحاصلة والمتمثلة في جزء منها في ظهور معطى جديد، يربط بدوره ظاهرة الإرهاب في أحد أهم أبعادها عمومًا بمسألة المهاجرين ومشكلات ما يسمى الجيل الثالث في البلدان الأوروبية، وأيضًا أصبح يتم الربط حتى بظاهرة المهاجرين السريين، باعتبار أن ليبيا - لا ننسى أن السبب المباشر وراء تصريحات وزارة الخارجية الإيطالية إنما يعود إلى فوضى الأوضاع الليبية وخطورتها - أصبحت مرتعًا للإرهابيين وتصول فيها عناصر من «داعش». أي أن إيطاليا أرادت أن تقول لدول أوروبا بأنها تستطيع تأمين عدم تسلل بعض «الدواعش» إلى دول أوروبا، ولكن بشرط دفع المال. ومن ثمة، فإننا أمام طلب تقديم خدمات بمقابل، ولكن طلبًا قدمته إيطاليا مغلفًا، محاولة استثمار الأوضاع الرّاهنة في العالم، خصوصًا كل ما يتعلق بمسألة الإرهاب والمهاجرين وتداعيات الميز العنصري وعذابات التشرذم والانفصام في الهوية، وغير ذلك.
وبعيدًا عن مضمون الطلب الإيطالي، وكيف أنه بدا لنا يستبطن رسالة أمنية مختلفة عما يُظهره من رسالة إنسانية، تخص إنقاذ أرواح المهاجرين غير الشرعيين، فإن روما ودون قصد واع منها، وضعت إصبعها على منطقة قريبة من الداء. ذلك أن سهولة انتداب التنظيمات المتشددة للشباب، الذي يمثل الفئة الغالبة على المنتمين إليها، إنما يمثل دليلاً على أن الإرهاب، يتمعش من الوضع الاقتصادي للشباب، الذي يختار قهرًا الهجرة السريّة، التي أصبحت محلّ استثمار من مافيا الإرهاب. لذلك، فإن ما يستحق التركيز هو فكرة أن الاتحاد الأوروبي مطلوب منه بالفعل الدعم المالي لإنقاذ أرواح المهاجرين، لأن في ذلك رسالة حوار وتفاعل واعتراف بقيمة الإنسان وحقوقه، وهو ما قد يسهم في إذابة الجليد القائم الذات بين الثقافات والانتماءات الدينية والحضارية المختلفة.
من جهة أخرى، سيسهم دعم الاتحاد الأوروبي للدول التي يُهاجر شبابها سرًا إلى الغرق والموت في حلّ معضلة التشغيل ممّا قد يترتب عليه التخفيف من ظاهرة الهجرة السريّة ذات الانعكاسات السلبية والمفجعة بالنسبة إلى الجميع.
طبعًا، نعرف جيدًا أن بلدان أوروبا نفسها تعاني من البطالة، لذلك فإن المطلوب هو إعادة النظر في الدعم الأوروبي لهذه البلدان المغاربية والأفريقية وغيرها وإعادة ترتيب أولويات الدعم المالي ومجالاته الأكثر مصيرية. فمجال الشباب وتشغيله يعد الأهم اليوم، لأن الإرهاب معركة العالم في الوقت الرّاهن ويستقطب الشباب ويتغذى من إحباطاته ومن خوفه من المستقبل ومن جيبه الفارغ.