فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الحروب الأهلية.. وحالات ما قبل المجتمع

ارتبطت الشعارات التي غصت بها الميادين والساحات بمفاهيم كثيرة جماعها البحث عن صيغ الخلاص، والوصول إلى حلم الديمقراطية، والبحث عن سدرة الحرية ومن ثم الفناء بنعيمها المقيم. غير أن كل محاولات الحرية الحالية وصلت إلى حالة من الحرب الأهلية الدموية وهي الأغلب، أو الحروب الاجتماعية الرمزية بين الفرد والآخر. ربيع الأحلام وصل به المطاف إلى «داعش»، وانتعاش «بوكو حرام»، وانتشار التشدد، وتفكك الدولة، وطرح صيغ التقسيم، وانفجار الأزمات الاقتصادية، والتلوث البيئي، واكتظاظ التراب بالمقابر الجماعية، وارتواء البحر من دماء حارة فصلت رؤوس أصحابها عن أجسادهم للتو.
ليس غريبا انتهاء تلك الأحداث الغاضبة الفوضوية إلى ما نشاهده الآن، بل الأكثر غرابة وجود من يراهن - حتى الآن - على الحراك الثوري بغية الوصول إلى «حتمية الانتصار»، معتبرا هذا الذي يجري مجرد «ديالكتيك» سيوصل الجميع إلى «الحتمية التاريخية» على الطريقة الهيغلية.
إننا بالمنطقة لا نشهد الحروب الأهلية على الطريقة التقليدية، بل تجاوزت الأحداث صيغ «الحرب» لتصل إلى مستوى من الوحشية تستعيد فيها صور قطع الرؤوس، واستئصال الأحشاء، والانتقام الحاقد الجائر. إننا بمعنى ما نظلم معنى «الحرب» حين نسقطه وصفا على الذي يجري. لقد كانت الحروب الأهلية طوال التاريخ مؤرقة للمنظرين والفلاسفة والمفكرين، ذلك أنها ليست حربا مشروعة ضد عدو معين، فللحروب ظروفها ومشروعيتها ضمن نماذج وإمكانات وحالات، بل لها «فنها» كما يعبر مكيافيللي، بيد أن الحالة العربية إنما تغرق بالوحشية المطلقة، عبر كشفها المؤلم عن حروب أهلية اعتباطية فتحت جروح الطائفية، ومزقت إرث الأقلية، وأحيت التطهير القبلي المنظم، وعاد كل إنسان إلى كهفه، ولم يعد ممكنا أن يثق حتى بظله، ذلك أن التفكك المطلق، والشك المستديم، وأصالة الإدانة، وحالات الريبة.. كلها تجعل البيئة المعيشة ليست إلا «غابة ضخمة» تحتوي على جموع وخليط من البشر، وتلك الجموع ليست «مجتمعا» بالمعنى العلمي، بل هي أقرب ما تكون لتجمع ضمن تضاريس، لأن «المجتمع» هو الضاغط عبر تضابطه وتعاضده للانتقال من «الرغبة» إلى «العقل»، ومن أسس الانتقال هذا يأتي البدء بتأسيس صلابة القانون، وبناء المؤسسات، تمهيدا لوضع دساتير، ومن ثم بناء الدولة ونشر «الهيبة».
حين تنشب الحروب الأهلية تعيش الجموع ضمن حالة «ما قبل المجتمع» أو «حالة الطبيعة» بحسب توماس هوبز الذي قام بتحليل الحرب الأهلية الإنجليزية في منتصف القرن السابع عشر عبر كتبه الكثيرة؛ ومنها «البهيموث» المهتم بحقيقة الحرب الأهلية، و«عناصر القانون الطبيعي» الذي كتب على شرر الحرب حينها، وكذلك كتابه «المواطن» الذي كتبه في ذروة الدم، الذي أشار في مقدمته إلى الدمار الذي يحيط ببلده بسبب اندلاع الحرب الأهلية. ومن بين المفاهيم موضع الشرح المتواصل لهوبز «الحالة الطبيعية».. إنها حالة ما قبل المجتمع، وهي التشخيص العلمي لنمط المجتمع الذي تجري فيه الحروب الأهلية الدموية وتغيب فيه الدولة، وتنطلق فيها النزوات والنزعات وتنفجر فيها كل المكبوتات الوحشية وأعراف الغاب، وأنماط النهب، وتصبح الرغبة الشخصية هي المحددة للفعل والاندفاع.
في «اللفياثان» الكتاب الأبرز لتوماس هوبز يشرح ذلك المفهوم في الفصول من 13 إلى 15، وفيه يفصل حالة ما قبل المجتمع: «في الوقت الذي يعيش فيه الناس دون سلطة مشتركة تبقيهم جميعا في الرهبة، يكونون في الحالة التي تسمى حربا، وهي حرب الإنسان على الإنسان، والحرب ليست المعركة فقط أو فعل القتال؛ بل هي فترة من الزمن تكون فيها إرادة التنازع معلومة بما فيه الكفاية.. إن كل ما ينتج عن زمن الحرب، حيث إن كل إنسان عدو لكل إنسان، ينتج أيضا عن الزمن الذي يعيش فيه البشر دون أمان غير ما تؤمنه لهم قوتهم الخاصة». يتحدث هوبز عن أن «الحالة الطبيعية للناس - قبل أن يكونوا مجتمعا - تكوين الحرب الدائمة، بل حرب الكل ضد الكل». إنها، بحسبه، حالة من غياب السلطة التي يذوب فيها مجموع الإرادات من أجل تحقيق «الرهبة» الهادفة إلى تحقيق مبادئ السلم والعدل والقانون، ومن ثم تكون الدولة على أساس مجتمعي ينضبط ضمن أسس السلطان الذي يوحد النمط الديني ويعتبر الخروج عليه «هرطقة» ومن ثم بناء الدولة ذات البناء المؤسسي والأساس «التمثيلي».
يأتي مفهوم الحالة الطبيعية وحالة «ما قبل المجتمع» ضمن التشخيص لفيلسوف رأى الحرب الأهلية من نافذته، ومن ثم اعتبر «المجتمع» بالمفهوم العلمي ليس حاضرا، بل لم يتكون بعد، عندما غابت السلطة، تحول كل إنسان إلى فرد ضد الفرد، وحين تنعدم الثقة وتنتشر الريبة، وتغيب «الملكية الخاصة»، تصبح الأمور مشاعة، ومن ثم تكون كل شروط قيام الحرب الأهلية قائمة ومتحققة.
لدينا نحن العرب - قبل الربيع العربي - كل شروط الحرب الأهلية وإمكاناتها، وكانت الأرض قد اكتظت بالوقود اللازم من أجل انتظار شرارة تشعل كل المكنونات الوحشية، كان كل الحراك عبارة عن إشعال شرارة في غرفة مليئة بالغاز، لأن إمكانات التقهقر، ومحفزات الحرب، وثقافة الموت، وشروط القتل.. كلها متوفرة على الأرض، وهي متاحة مباحة في كل المحاضن والمدارس والمنابر والبيوت.. ما ينقص المنطقة ليس الحرية أو الديمقراطية أو الكرامة الإنسانية، هذه كلها شعارات ليس هناك ما يثبت سعي الناس إليها في تلك التجمعات، الذي ينقص المنطقة شرارة صغيرة لها لتنفجر. ليس هناك «مجتمع» تكون حتى يتمكن من الاندفاع نحو أحلامه، ما تكون مجرد أمشاج من التجمعات القادمة من القرى الصغيرة إلى «القرى الكبيرة» بالعقليات الريفية أو الرعوية نفسها.
كل الحروب الأهلية الممكنة والقائمة توضح أن هناك استعصاء على تشكيل مجتمع يمكنه التقدم نحو الأحلام، لهذا ترتد كل مطالبات الحرية على أهلها، وتشتعل تلقائيا أعنف وأشرس وأبشع الحروب الأهلية في التاريخ.