أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

حرب «داعش» الإعلامية

30 ألف مقاتل في «داعش»، ليس من بينهم أولئك الأكثر دهاء، والأشد خطرا من الجزارين الذي يقطعون الرؤوس، أعني من توكل لهم مهام بعيدة عن ميادين القتال وهو ميدان العمل الإعلامي؛ في الإعلام الاجتماعي أو المواقع الإخبارية.
السياسة الإعلامية لـ«داعش» على درجة عالية من التطور، لأن بعضا ممن يقوم عليها لديهم خبرة في العمل الإعلامي سواء المكتوب أو المرئي أو «الجديد»، وتحت أيديهم متدربون يتلقون دروسا في التقنيات المتطورة لإنتاج مقاطع الفيديو والتسجيلات الصوتية وتحرير الأخبار، وهذا ما حقق لهم القدرة الهائلة على الحشد واستقطاب الموالين لهم من بقاع شتى ومن مختلف الثقافات. يستدرجون الشباب الصغار، وحتى الكبار، بأسلوبهم التسويقي الذي ثبت نجاحه حتى الآن. عملهم الإعلامي ضخم؛ ناطق أو مترجم إلى أكثر من سبع لغات؛ منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والروسية والإندونيسية، ولهم حسابات بهذه اللغات في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «تويتر» و«فيسبوك».. نشاط متواصل خلال ساعات اليوم دون توقف، وحتى مع محاولات موقع «تويتر» إغلاق بعض الحسابات الرسمية لمراكزهم الإخبارية، إلا أنهم سرعان ما يستبدلون أخرى بها، وينشطون خلالها، ولا تستفزهم سخرية الآخرين أو هجومهم عليهم، بل ينخرطون في جدالهم بلا كلل.
خلال اليوم الواحد يتم إصدار تقارير عن تحركات التنظيم، وكل منجزاته، ورغم التضخيم الإعلامي، فإنها تعكس الكثير من نشاطاتهم الفعلية، وتجد من يستقبلها وتثيره متابعتها. ومع تكرار الشاب في أميركا أو إنجلترا أو ماليزيا مشاهدة هذا الإنتاج، يبدأ تحديث نفسه بالتجربة، وهنا يأتي الدور الثاني لهذه المواقع من خلال تيسير الوصول إلى الأراضي التي احتلها التنظيم من أي مكان في العالم.. يقدمون تسهيلات كبيرة بعدما تكون الفريسة قد بدأت تميل إلى الالتحاق بهم لتسهيل خروجها ودخول أراضيهم.
من الملاحظ أن إعلاميي «داعش» لا يستخدمون مع الغرب لغة الخطاب التي يستخدمونها معنا أو مع الآسيويين، فكل إنتاجهم الإعلامي المصور أو المقروء الموجه للعرب أو الباكستانيين أو الإندونيسيين يعتمد الخطاب السلفي المتشدد، بتفسيراتهم التي ينسبونها إلى ابن تيمية، أي أنهم يعودون بنا إلى التاريخ في محاولة إقناع الشباب للانخراط معهم، بتذكيرهم بأقوال السلف في «الجهاد الذي لا حياة من دونه». أما خطابهم الأكثر تحضرا وحداثة فهو ما يوجهونه للإنجليز والفرنسيين والألمان، حتى إنهم يروجون مقاطع فيديو وهم يلاعبون القطط، ويغنون، ويوزعون الحلوى والآيس كريم على الأطفال، ويبثون صورا للناس في يوم عمل عادي وهم في الأفران والمخابز والبقالات مبتسمين تظهر عليهم البشاشة ومشاعر الارتياح والاستقرار في دلالة على أن الحياة تحت راية «داعش» طبيعية وسعيدة، ولكنها تستلزم «الجهاد» الذي يمثل القوة التي تنقذهم من حياة الهوان وتحقق لهم العدالة الاجتماعية، ومن هنا يبررون بشاعة مقاطع القتل التي يبثونها من وقت لآخر، وهذه أحد أهم الفروقات بين «داعش» والتنظيم الأم، أي «القاعدة».
كان المكون الرئيسي لتنظيم القاعدة الذي انخرط في الحرب بالعراق في 2003 هم العرب وبعض الآسيويين من الشيشان أو باكستان. لم تكن فكرة الالتحاق بـ«القاعدة» تقلق العائلات الغربية على أبنائها لأن «القاعدة» كانت تلاحقهم بعملياتها كما حصل في أميركا وبريطانيا.. كان التنظيم تقليديا، خطابه يستهدف الغرب وإسرائيل، لذلك كانوا بمثابة العدو الواضح للغرب. أما «داعش» فلا تعنيهم إسرائيل، وقد أوضحوا نيتهم بأن أولوياتهم استهداف الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية التي ينظرون لها على أنها ليست إسلامية إلا في شكلها وأنها لا تقيم حدود الله.
يمكن القول إن تنظيم القاعدة كان تنظيما عام الأهداف، محدود التركيب، أما «داعش» فهو متخصص، ومكونه البشري واسع، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن مشروع «الإمارة الإسلامية» الذي أسسته «القاعدة» في العراق في 2006 باء بالفشل لأنه افتقر للبروباغندا التي يمتلكها «داعش» اليوم، مما جعل قوة «القاعدة» حينها مختزلة في العمليات الانتحارية، لأنها لا تملك جيشا مدربا متماسكا ومتطورا كما هي الحال مع «داعش». وهذا أيضا يجعلنا نقول إنه إذا أردنا أن نقيس التحول في قوة «داعش» خلال الشهور المقبلة، كما نأمل، فسيكون من خلال تحوله للعمليات النوعية الانتحارية.. إن فعل، فهذا يعني تضاؤل قدراته العسكرية وانتقالها من مرحلة الاجتياح والاستيلاء إلى العمليات الفردية.
السؤال هنا: ماذا يمكن أن تعمل الحكومات لكف تأثير «داعش» على أبنائها والحد من استمالته لهم؟
الحقيقة ليس الكثير، لأن الأجهزة الذكية التي باتت في أيدي الشباب وجزءا لا يتجزأ من ممتلكاتهم الشخصية وممارساتهم اليومية هي بوابة العبور إلى عوالم «داعش»؛ آيديولوجيته وتأثيره ومركز جذبه، وكل الأسر في الغرب التي تشعر اليوم بالهلع من أن تصحو ولا تجد ابنها أو ابنتها في أسرّة نومهم، لا تملك سوى متابعتهم ومراقبتهم ومن يرافقون، لأن الحكومات لن تستطيع فعل الكثير، ربما ستثير شكوكها تذكرة سفر في اتجاه واحد ذهابا بلا عودة إلى تركيا أو غيرها، عدا ذلك، لا يمكن التنبؤ بما قد يجري.
إنما كما يقال «لا يفل الحديد إلا الحديد»، الإعلام المضاد هو أفضل وسائل الحرب على إعلام «داعش»، ولكن للأسف كل ما نراه اليوم هو حرية كاملة لمن يسوق للتنظيم أو يرخي لهجته تجاههم في مواقع التواصل، إضافة إلى العمل الإعلامي التقليدي الذي لا يتعدى شجب مقاطع الذبح ووصم فاعليها بالإرهاب. هذا النوع من الإعلام لا ينجح، لأنه بات مملا ومكررا. علينا أن نخاطبهم بلغتهم، بتفنيد آيديولوجيتهم، واستخدام الإعلام الاجتماعي بحرفية وليس عمل هواة، وهو ما سيصل إلى الشباب ويثير شكوكهم حول أهداف التنظيم.
الحرب العسكرية ضد «داعش» قد تؤخر تقدمهم أو تستعيد بعض الأراضي منهم، إنما الحرب الكبيرة هي حرب الأفكار، فقد يموت «داعش» الذي نراه اليوم ونضرب له ألف حساب، ويولد غدا «داعش» آخر بشكل ورسم مختلف.

[email protected]