علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

يا بخت من أبكاني

قيادة السيارة في القاهرة أمر صعب للغاية، خصوصا بعد أن تفوقنا على العالم كله في حوادث السيارات على الطرق المزدوجة والفردية. ومع كل كارثة، تهتم أعمدة الصحافة وبرامج الفضائيات بالحادث وأسبابه، وتأتي بعدد من المسؤولين الذين يتحدثون عادة عن خطورة بعض الطرق ورعونة بعض السائقين، ثم تهبط علينا جميعا نوبة من النسيان إلى أن نستيقظ فزعين على الكارثة التالية. ومع الأيام اكتسبنا عادة تقبل هذه الكوارث وكأنها قدر يستحيل الإفلات منه.
ربما أكون أنا أيضا قد اكتسبت هذه العادة، لم أعد أفقد أعصابي عندما أفاجأ بحماقة بعض السائقين في المدينة أو على الطرق السريعة. ولكن هناك ظاهرة أخرى تصيبني بنكد لا حد له، وهي التعامل السلبي مع «سرينة» الإسعاف والشرطة والمطافئ، وبكلمة «سلبي» هنا أقصد أنهم جميعا؛ نعم جميعا، يتظاهرون بأنهم لا يسمعونها. في عصور سابقة، كان قادة السيارات عند سماع هذه السرينات يخففون سرعتهم، ويركنون على يمين الشارع، لكي تمر هذه السيارات بسرعة.
ماذا تعني هذه السرينة التي يسمعها بوضوح حتى من كانوا يعانون الصمم؟
لنلجأ للتحليل في حدوده الضيقة، ماذا يدور في عقول الناس في هذه اللحظات؟ آه.. إنها سيارة الإسعاف، طبعا هي تنقل مريضا في حالة حرجة، ربنا معاه.. وأنا مالي.. إذا توقفت إلى اليمين لكي أسمح له بالمرور فلن يتوقف غيري..
إذا كانت سيارة المطافئ فلا بد أنها في طريقها لإطفاء حريق.. ضحايا الحريق حظهم وحش.. لو كان الحريق حدث في الفجر قبل أن تزدحم الشوارع، لكان من السهل أن تصل إليهم هذه السيارة بسرعة.. ربنا معاهم.
أريد أن أصل إلى أن هذه الظاهرة ليست لها صلة بقيادة السيارات، ولا بالازدحام، ولا بكل قوانين المرور.. هذه الظاهرة تكشف عن إحساس جمعي قوي للغاية بعدم التعاطف مع كل من هو واقع في مصيبة، وعدم الرغبة في تحمل أقل قدر من المجهود لمساعدته.. لأفلت بجلدي أنا وليذهب الآخرون إلى الجحيم.. أنا لست مسؤولا عن هذا المريض.. لست مسؤولا عن إطفاء الحريق.. لست مسؤولا عن مساعدة الشرطة في الوصول إلى مكان حادث أو جريمة..
هكذا نصل إلى المرض الحقيقي؛ وهو غياب الاهتمام بالآخرين عندما لا تعرفهم أو تربطك بهم صلة. وهذا عيب خطير لا أعتقد أنه يصل بأي شعب إلى مستقبل مزدهر. نحن نهاجم بقسوة أي مسؤول يرتكب خطأ ما أو نتوهم أنه ارتكب خطأ ما، أما عندما تخطئ جموع الناس الذين نسميهم «الشعب»، فنحن لا نرى أخطاءهم ولا نجرؤ على مكاشفتهم بأمراضهم التي يجب أن يتولوا علاجها فورا.
هناك مثل شعبي مصري قديم يقول «يا بخت من بكّاني وبكّى الناس عليّ.. ولا بخت من ضحّكني وضحّك الناس عليّ». ليس عارا ولا حتى من سوء السياسة أن نصارح الناس بعيوبها.