علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

الملك الإصلاحي

طبيعي أن تكون هناك كثافة تحليلات ودراسات واستنتاجات في الإعلام ودوائر ومراكز الأبحاث بالدول الغربية حول اتجاهات السياسة السعودية داخليا وخارجيا بعد رحيل الملك عبد الله وتولي الملك سلمان مقاليد الحكم، فهذا ما حدث عندما توفي الملك فهد وتولى الراحل الحكم.
هذه المرة هناك كثافة في المتابعة والتحليل ومحاولة قراءة ما بين السطور، وهذا طبيعي أيضا بحكم ظروف إقليمية ودولية جعلت الدولة السعودية أكثر أهمية من أي وقت مضى، وكذلك التحديات أكبر من أي وقت مضى.
أكثر أهمية بحكم أنها أصبحت عضوا في مجموعة العشرين الأكبر اقتصاديا بالعالم، والتي رأس الملك سلمان وفد المملكة في آخر قممها في أستراليا، وأيضا للدور المحوري الذي تلعبه في سوق الطاقة العالمي، فالكل يراقب أي تصريح أو إشارة منها فيما يتعلق بسوق النفط المتوترة حاليا، والمرتبطة بشكل وثيق بحالة الاقتصاد العالمي.
هذا ينسحب أيضا على السياسة؛ فقد ازدادت أهمية الدور السعودي في ضوء الوضع الإقليمي المتدهور، وآفة الإرهاب المتمثلة في ظاهرة «داعش» التي لا تهدد المنطقة فحسب بل العالم، وأصبح لأول مرة هناك منظمة إرهابية تتحكم في أرض وموارد وسكان، وتسمي نفسها دولة، وتسعى للتمدد مستفيدة من حالة فوضى وفراغ في المنطقة تسببت فيها عوامل كثيرة ليس هذا مجال شرحها.
في معظم التحليلات التي حفلت بها صحف غربية في أوروبا أو أميركا في الأيام الماضية، هناك إشارة دائما إلى أن الرياض تمكنت من المحافظة على الاستقرار في بيئة إقليمية حفلت بالعواصف والتقلبات منذ 2011، سميت في البداية ربيعا، ثم بدأت النظرة تتغير مع انهيار دول وتفككها وصعود ظاهرة الميليشيات أو القوى البديلة للدولة، وتحول الثورة إلى حروب داخلية دامية مثل سوريا وليبيا قتل فيها مئات الآلاف وتحول فيها الملايين من السكان إلى نازحين ولاجئين.
لقد كان إعصار 2011 قويا، لكن على العكس من تحليلات كثيرة تساءلت لماذا لم يمتد هذا الإعصار جغرافيا أكثر من ذلك وقتها، فإن الحقيقة الموضوعية أنه لم يكن هناك مبرر لذلك، فجزء كبير من أسباب «الربيع العربي» اقتصادي، ولا توجد مبررات اقتصادية في الخليج تبرر قيام انتفاضات، وفي الوقت نفسه فإن التركيبة القبلية للمجتمعات وطبيعة الحكم المتوارثة لا تسمح ببعض الممارسات التي تخلق مظالم من نوعية ما كان يحدث في سوريا مثلا. فضلا عن أن عملية التحديث والانفتاح قائمة، بقدر ما يستطيع المجتمع استيعابها.
وهذا يقود إلى قضية أخرى وهي عملية الإصلاح والتحديث التي تجري في بعض الأحيان بخطوات سريعة، وفي أحيان أخرى بخطوات أبطأ، تلعب المعطيات الواقعية والمجتمعية والموارد عاملا مهما في تحديد سرعتها، لكن المؤشر العام في سياسة الحكم في السعودية يشير منذ حتى السبعينات إلى منحى إصلاحي تحديثي داخلي مستمر على اختلاف العهود، وأسلوب حكم كل ملك.
وقد كان هناك في بداية تولي الملك عبد الله مقاليد الحكم انطباع تعطيه القراءات والتحليلات الغربية بأنه محافظ جدا، ثم نسي الجميع هذه الفكرة، وهم يرونه يطلق بجرأة مبادرة السلام العربية، ويخوض بقوة حربا لا هوادة فيها ضد الإرهاب، ويطلق الحوار الوطني وحوارات بين أتباع الأديان لتفادي حرب الحضارات.
ومن أهم إنجازاته على الإطلاق الاستثمار في الناس من خلال الاهتمام الفائق بالتعليم وبرامج الابتعاث الخارجي بعشرات الآلاف والتوسع في الجامعات الداخلية، فالتعليم هو ما يصنع تقدم الأمم، ولن يكون هناك انفتاح دون العلم وصناعة العقول، وقد كان ممتعا إعادة قراءة الحوار الذي أجرته معه «الشرق الأوسط» في 2006 وقوله إنه كان مشغولا بما سماه ثورة تعليمية.
القراءة المنطقية تؤشر إلى أن سياسات الحكم مؤسسية، وهو ما يعني أن الخلف دائما يكون عنده هامش أن يكون أكثر تحديثا وإصلاحية من سابقه لسبب بسيط أنه يجد أساسا أو طوابق يبني عليها، وهكذا تتقدم الأمم عن طريق تراكم البناء من جيل إلى آخر.