نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

محكمة الجنايات الدولية.. حدود القدرة

الطريقة الاحتفالية التي تحدث بها الفلسطينيون عن محكمة الجنايات الدولية، فيها قدر كبير من التسييس، وقدر ضئيل من المعالجة القانونية والقضائية، فمنذ أن بدأ التلويح بالذهاب إلى محكمة الجنايات، تحدث عدد غير قليل من الناطقين، عن جرجرة القادة العسكريين والسياسيين في إسرائيل إلى المحكمة، وحتى إن بعض الناطقين قال عمّا قريب سوف نقتادهم جميعا إلى المحكمة ليواجهوا تهمة جرائم الحرب التي ارتكبت بحق الفلسطينيين.
ومع أن إسرائيل ارتكبت بحق الفلسطينيين والعرب ما هو أفدح من الجرائم العادية، حيث أوقفت نموهم عقودا من الزمن، ودمرت حروبها معهم واحتلالاتها لأرضهم، كل مقومات الحياة في الكثير من المجتمعات العربية، إلا أن حكاية محكمة الجنايات ينبغي أن ينظر إليها بصورة مختلفة عن التبسيط الاحتفالي، والمبالغة في قدرة المحكمة على الاقتصاص من المجرمين، حتى لو كانت الأدلة على جرائمهم أكثر من دامغة.
ولقد بالغ الإسرائيليون عن عمد وسبق إصرار في إظهار المخاوف والقلق من التوجه الفلسطيني إلى محكمة الجنايات، ليس لأنهم خائفون بالفعل، وإنما لإيجاد المبررات القوية للتنكيل بالفلسطينيين لقاء هذه الخطوة، خصوصا حين تزامن الالتحاق الفلسطيني بالمحكمة، مع الحملة الانتخابية الشرسة التي تجري في إسرائيل، والتي يعول نتنياهو الذي يخوض معركة مصيرية فيها، على أن كل تصعيد من جانبه ضد الفلسطينيين يوفر له مزيدا من الأصوات، أي بقاء في السلطة لمدة جديدة. وفي سعيه لإلحاق المزيد من الأذى بالفلسطينيين وقياداتهم، فقد أوعز للكثير من الجهات الإسرائيلية للقيام بهجوم معاكس ورفع قضايا، حيث استطاعوا، ضد أشخاص ومؤسسات فلسطينية، وآخر ما حرر؛ الإعداد لرفع قضايا عديدة في الولايات المتحدة الأميركية على غرار قضية البنك العربي.
ومع أن القانون الدولي وقوانين الأمم المتحدة تمنح الفلسطينيين حق الانتساب إلى محكمة الجنايات، ورفع قضايا تبدو محقة من كل الجوانب ضد إسرائيل، إلا أن ما يقلق في الأمر، تلك القاعدة التي تحكم الوضع الدولي منذ عقود، وهي أن الحق يتراجع دائما أمام القوة، وأن العدالة المفترضة تتلاشى أمام جدار المصالح الأصم وأهواء الدول المقررة في هذا العصر، وفي زمننا هذا فإن العدالة التي نتمسك بها، كفلسطينيين وعرب، من خلال مجلس الأمن أو محكمة الجنايات أو حتى الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، لا وجود لها في الحسابات السياسية وتجسيد المواقف، وإذا لم تتفق مسارات وقرارات ما نعتبره مرجعيات دولية مع مصالح وسياسات الولايات المتحدة، فلا أمل بتحقيق العدالة، ولا فائدة من الجري وراءها، ولدينا من القرائن ما يكفي حول هذه المسألة بدءا من مييسوفياتش، مع الفرق في التشبيه، مع شهيد الأمة رفيق الحريري، والمطلوب دون جدوى الرئيس البشير.
إن الفلسطينيين الذين دفع بهم اليأس والإحباط والدوران الدائم في الحلقات المفرغة، إلى طرق باب مجلس الأمن المستحيل، والانتساب إلى محكمة الجنايات الدولية ضعيفة القدرة على تحقيق العدالة، أمر مفهوم من حيث الدوافع، ومفهوم أكثر إذا ما أريد منه الضغط من أجل تعديل مسار المفاوضات وتفعيلها من أجل البلوغ إلى حل على المدى المنظور، تحت هذا السقف وضمن هذا المسار، فالأجدى أن يلوّح بهذا السلاح دون التعجل في استخدامه، فمعظم الأسلحة تحقق مفعولها بالتهديد وينتهي مفعولها بالاستخدام، وحين تكون موازين القوى غير مواتية، أو أن معادلة الفلسطينيين فيها «الحق البيّن أمام الظلم المعزز بالقوة»، فإن الذكاء والدهاء في استخدام الأوراق يجب أن يكون هو الأساس، ذلك يشبه من في مخزن بندقيته طلقات قليلة، وعليه أن يحرص على عدم إفراغ المخزن من الذخيرة.
إن جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب أكبر بكثير من الوقوف أمام محكمة؛ لذا فإن توجيه الجهد نحو معركة سياسية كونية هو الأجدى والأكثر فاعلية.