أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

الفتية الأميركيون يعودون إلى طهران

منذ استيلاء الملالي على السلطة في طهران قبل نحو 35 سنة تقريبا، ظلت نظرتهم إلى الولايات المتحدة عبارة عن مزيج من الخيال والخوف. هذا المزيج لعب دورا محوريا في صراع السلطة الدائر داخل المعسكر الخميني منذ ذلك الحين. ويبدو تأثير ذلك المزيج بشكل أوضح في الوقت الراهن، حيث يحاول الفصيل الذي يقوده الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني استعادة المناصب التي فقدها خلال حكم أحمدي نجاد.
مؤشرات إعجاب الملالي بالولايات المتحدة، التي نعتها الخميني بـ«الشيطان الأكبر»، كانت حاضرة منذ الأيام الأولى للنظام، فقد تضمنت الحكومة الأولى التي شكلها الخميني والتي رأسها مهدي بازاركان خمسة وزراء يحملون الجنسية الأميركية، وحوكم بازاركان بعد ذلك كعميل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وعقب وقت قصير من تشكيل حكومته، التقى بازاركان مستشار الأمن القومي الأميركي زبيغنيو بريجنسكي، في الجزائر، لصياغة خطة استراتيجية مشتركة ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان.
ولإسقاط بازاركان، لعب الفصيل المنافس على وتر الخوف من أميركا وشجعوا على احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين كرهائن.
وعقد محمد بهشتي، ذلك الملا الطموح الذي قاد الفصيل الرئيس المناوئ لبازاركان، اجتماعا سريا مع عملاء أميركيين لتشكيل تحالف. حتى إن بهشتي أرسل واحدا من حاشيته، وهو علي خامنئي، الذي يحتل منصب المرشد الأعلى الآن، إلى السفارة المحتلة لتحسين أوضاع الدبلوماسيين الأسرى. والفيديو المنشور على الإنترنت يظهر خامنئي وهو يعد الرهائن الأميركيين بأنهم سيجري الإفراج عنهم وأن الجمهورية الإسلامية ستستأنف شراء الأسلحة من الولايات المتحدة.
كان يقود الفصيل المنافس في ذلك الوقت رئيس الوزراء مير حسين موسوي الذي اختتم المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن. ولدعم موقفه، أقام موسوي قناة اتصال مع واشنطن يقودها كبير مساعديه عباس محسن كنغارلو.
وعقب اغتيال بهشتي، اتحد مساعداه خامنئي ورفسنجاني لإسقاط موسوي، وأصبح رفسنجاني مفاوض واشنطن الأول في طهران، وبمرور الوقت استغل ورقة أميركا لتعيين خامنئي «مرشدا أعلى»، بينما تولى هو رئاسة البلاد.
الشغف الخميني بالشيطان الأكبر كان كبيرا حتى إن الكثير من أقطاب النظام كانوا يرسلون أبناءهم سرا إلى الولايات المتحدة ليتعلموا هناك. واليوم، يحتل أبناء الملالي ومساعدوهم الذين تعلموا في الولايات المتحدة مناصب عليا في النظام الخميني. وفي عام 2011، سرب أحد أعضاء مجلس الشورى الإيراني قائمة تضم أسماء ما يزيد على 300 فرد يحمل الكثير منهم بطاقات الإقامة الدائمة أو {الغرين كارد} الأميركية.
ولا يثير الدهشة أن تكون الولايات المتحدة المقصد الثاني للمئات من مسؤولي النظام الخميني والحرس الثوري ومديري الشركات التي يملكها الملالي، وقد ذهب الكثير منهم إلى الولايات المتحدة في منح دراسية تقدمها لهم مصادر أميركية غير معروفة.
ويبدو من النظرة المبدئية أن استثمار الولايات المتحدة في الإبقاء على شبكة من الاتصالات داخل الجمهورية الإسلامية سيؤتي ثماره فيما بعد. فهناك الكثير من أعضاء تلك الشبكة في الوقت الحالي يحتلون مناصب مهمة في إدارة الرئيس حسن روحاني. كما عاد الكثير من إقامتهم المؤقتة في الولايات المتحدة بغية العمل على تقوية تلك الشبكة.
ويقول وزير الخارجية الأميركي جون كيري، إنه ما إن يقوى موقف روحاني في إيران، حتى يستطيع الفصيل المؤيد له التحرك ضد الفصائل «المتشددة» التي ما زالت حبيسة للأفكار العتيقة المناوئة لأميركا.
ومن جانبهم، يزعم روحاني وجماعته من «الفتية الأميركيين» أنهم يستطيعون توفير دعم أميركي للنظام، وهو ما سيساعد، حسب اعتقادهم، في تحسين توقعات النظام الخميني عن مستقبل إيران. وتبدو رسالة روحاني لواشنطن بسيطة: دعونا نحكم إيران، وسوف نضمن لكم مصالحكم! وهو ما يطلق عليه «اللعبة التي يربح فيها الجميع».
غير أن النظرة الفاحصة في حقائق الأمور بإيران اليوم ربما تعطينا صورة مختلفة عن الواقع هناك. بالمقارنة بعام 1979، نجد أن المجتمع الإيراني قد صار أكثر تعقيدا، حيث ظهرت فيه الكثير من القوى التي ساهمت في تشكيل السياسات الخارجية والداخلية بطريقة أفضل مما كان سيفعله بضع مئات من الأشخاص الذين يجري زرعهم في مناصب حساسة بالدولة. وما زال رفسنجاني وخامنئي وأحمدي نجاد والكثير من اللاعبين رفيعي المستوى في السياسة الإيرانية يصطادون في بركة مياه الثورة التي تزداد ضحالة يوما بعد يوم. وتشير أفضل التقديرات، بما في ذلك معدلات المشاركة في الانتخابات التي ينظمها النظام، إلى أن الآيديولوجية الخمينية ما زالت بإمكانها حشد تأييد ما بين 10 و15 في المائة من الإيرانيين. ولأن النسبة الباقية من المجتمع تبقى مقسمة بين السياسات والآيديولوجيات المختلفة، ما زالت نسبة 10 – 15 في المائة تمثل كتلة انتخابية قوية يحسب لها ألف حساب. المشكلة أن كراهية أميركا تشكل مكونا رئيسا في الآيديولوجية الخمينية، وعليه فإنه عندما يحين الوقت لحدوث تغيير حقيقي في موقف طهران المعادي للولايات المتحدة، فلن يستطيع الفصيل الذي يلعب بورقة أميركا أن يفي بوعوده.
لن يستطيع روحاني وجماعته من «الفتية الأميركيين» الوفاء بالوعود التي قطعوها على أنفسهم لوزير الخارجية الأميركي جون كيري، إلا إذا تخلصوا من مكون العداء لأميركا الذي يشكل جزءا رئيسا في خليطهم الآيديولوجي المميت. ومن الواضح أن روحاني وجماعته لن يستطيعوا فعل ذلك من دون خسارة الكتلة الانتخابية الخمينية.
بالطبع، يزعم روحاني أنه يستطيع أن يحشد كتلة انتخابية أوسع من تلك المؤيدة للآيديولوجيا الخمينية، فهناك أغلبية من الإيرانيين لديهم نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة ويرغبون في إنشاء علاقات أقوى مع واشنطن. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: إذا ما توافرت الفرصة لإيران للعودة إلى تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة، فلماذا إذن تعهد طهران بمشروع التقارب مع أميركا إلى أفراد نشأوا وترعرعوا على كراهية كل ما هو أميركي؟
خلال فترات رئاستهم لإيران، أظهر رفسنجاني ومحمد خاتمي (ملا آخر كان يتودد لأميركا) أنه حينما تتأزم الأمور فإنهم لا يستطيعون التخلي عن أهم قواعد اللعبة عندهم، ألا وهي معاداة أميركا. ومن هنا، يبدو من غير الممكن المضي قدما في الانخراط في تحالف مع واحدة من القوى التي يراها المرء على أنها عدو آيديولوجي. يبدو من غير المحتمل أن يستطيع روحاني وجماعته من «الفتية الأميركيين» تحقيق شيء أبعد مما أنجزه بازاركان وموسوي ورفسنجاني وخاتمي. ورغم سذاجته الحقيقية أو المختلقة، سيحسن كيري صنعا أن يتذكر أن مشكلة إيران اليوم ليست مع أميركا، إنما هي مشكلة داخلية بالأساس: إنها مشكلة انفصام الشخصية في أمة ترحب الغالبية فيها بالتحالف مع الولايات المتحدة، بينما تعد الأقلية كراهية أميركا هي شريان الحياة الرئيس الذي يغذي آيديولوجيتها.