نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أوروبا تعيد القضية المنسية إلى الأجندة

عادت القضية الفلسطينية إلى احتلال موقع لا بأس به في زحام القضايا الموازية أو البديلة، وبكل أسف فإن هذه العودة لم تأت نتيجة فعل عربي حلمنا به طويلا، وإنما جاءت نتيجة يقظة أوروبية بدأت بمبادرة لدولة ذات مصداقية خاصة هي السويد، وتم تعزيز المبادرة السويدية بموقف فرنسي قد يكون أكثر تقدما يرى في قيام دولة فلسطينية أمرا حتميا، وليس من قبيل الصدفة أن تحرك بريطانيا الأمر ولو بصورة رمزية حين ستجري تصويتا في البرلمان على تأييد الدولة الفلسطينية.
والذي أعطى صدى واسعا لهذه المبادرات هو رد الفعل الأميركي الذي حذر وندد وتباكى على المفاوضات، معتبرا التوجه السويدي بأنه سوف يجهضها، ناسيا أو متناسيا إعلان السيد كيري بأن إسرائيل هي من أجهض المفاوضات بعد استثماره لتسعة أشهر ثمينة كاد يستوطن فيها بين تل أبيب ورام الله.
كذلك جاء الموقف الإسرائيلي المتشنج وفاقد التوازن، ليجعل من الفكرة السويدية بمثابة قنبلة هزت أرجاء إسرائيل وغيرت مزاجها وهيأت لها سقوطا مأساويا لمكانتها في العالم المتحضر، والذي كان إلى حين بمثابة الحضن الدافئ لإسرائيل مهما فعلت.
وهذا الازدهار المفاجئ للقضية المنسية، جعل الإسرائيليين الحانقين على السويد والمتحفظين تاريخيا على أي دور لأوروبا في معادلة السلام الفلسطينية الإسرائيلية، جعلهم يتحدثون بلغة مختلفة نوعا ما عن لغة الخطاب الناري الذي ألقاه نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي لمحطة تلفاز أميركية، بأنه يوافق على مبدأ قيام دولة فلسطينية في سياق حل الدولتين، شريطة أن يوافق الفلسطينيون على بقاء أمني إسرائيلي طويل الأمد في الضفة الغربية، وأن يعيد الفلسطينيون النظر في مفهومهم للسيادة، وإذا ما قمنا بترجمة هذين الشرطين بلغة السياسة وليس الإعلام، فإن مصطلح البقاء في الضفة الغربية «أمنيا» لفترة طويلة يعني إغراء الفلسطينيين بالمفردة وسلبهم جوهر الأمر، بمعنى أن يسمح لهم بأن يسموا كيانهم الراقد تحت قوة الاحتلال، دولة أو إمبراطورية إن أحبوا، ويفسر هذا استخدامه لمصطلح إعادة النظر في مفهوم السيادة، وهذه جملة مهذبة بدل القول الصريح «تحت السيادة الإسرائيلية».
أقوال نتنياهو تعني إذا ما قورنت أيضا بالسلوك الإسرائيلي على الأرض في القدس والضفة الغربية، أن هنالك فعلا إسرائيليا محموما ومتسارعا، لفرض سيطرة شاملة على القدس أولا، مع سيطرة أمنية على باقي أنحاء الضفة، وهذا تغيير في اللغة وتطوير للمضمون، وهنا يمكن التطلع إلى السويد وفرنسا وبريطانيا، وغيرها من الدول المتحمسة لفكرة قيام دولة فلسطينية بأن تترجم مواقفها المتناثرة إلى مبادرة سياسية متكاملة، تقودها السويد ذات التراث الإيجابي في العمل من أجل السلام وتسير معها في هذا الاتجاه كل دول الاتحاد الأوروبي التي لا تختلف كثيرا معها في أمر الدولة الفلسطينية، ولو تحولت مواقف الدول التي تقال عادة في المناسبات، وتعلو وتخفت حسب الظروف، إلى مبادرة سياسية فإن حلا موضوعيا للمشكلة الفلسطينية قد يتبلور إن لم يكن بصورة مضمونة فقد يكون أنجع من كل الحلول التي فشلت.
أميركا قاومت هذه الفكرة مرارا، واستعاضت عنها بمبادرات فيها من الاستعراض والدعاية أكثر بكثير مما فيها من الرغبة الحقيقية في الحل، إلا أن أميركا لو لمست تصميما أوروبيا قويا لطرح مبادرة شرق أوسطية فسوف تضطر للتعامل معها بقدر أكبر من الجدية، خصوصا أن محتوى المبادرة المنشودة لن يتجاوز أدبيات ومواقف ومبادرات الرباعية الدولية، التي أسستها أميركا ولعبت بها فترة من الزمن ثم أودعتها الثلاجة.
إن عدم تحول أي موقف مهما كانت صياغته قوية وجديدة، إلى مبادرة سياسية يظل مجرد موقف معنوي قد يتلاشى مع الزمن.
ورغم انشغالات العرب بأمور أكثر سخونة، وحرائق تشتعل في داخلهم ومن حولهم وتحتل الأولوية لإطفائها، إلا أن العمل السياسي مع الأوروبيين لتطوير مواقفهم إلى مبادرات أمر في متناول اليد بل إنه يقوي أوراقهم في سوق الأزمات العاصفة التي لن تستمر إلى الأبد، وحين تنتهي هذه الأزمات لا بد وأن ينبثق واقع جديد، وهذا بالضبط ما يسمى بالفرصة التاريخية التي لا تأتي إلا بعد حرب عالمية أو حروب أساسية كالتي تحتدم الآن.