رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الأصوليات المتفجرة وإمكانيات الخروج من التطرف

أكبر ما أصاب ديننا لدى السنة والشيعة في العقود الأخيرة ثلاثة أمور: انتشار التكفير، واعتبار النظام السياسي ركنا من أركان الدين، واستخدام العنف لإحقاق المسألتين؛ مسألة الإيمان الصحيح، والنظام الشرعي! وهذه ثلاث تحويلات في مفاهيم الدين، ما عرفتها أمتنا حتى في أزمنة الحروب الصليبية والمغولية. وهذه الظواهر الثلاث تبدو فاقعة في عقديات «القاعدة»، والزرقاوي، و«داعش»، و«بوكو حرام». وتبدو أيضا لدى الميليشيات التي نشرتْها ولايةُ الفقيه في الأقطار العربية مثل «حزب الله»، والميليشيات العراقية، والحوثيين.
من أين أتت هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن صدُّها والخلاص منها؟ المعروف أنه بالنسبة للتكفير فهو يعني إحلالا للدم. ولدى المتدينين من العامة لا يأتي نتيجة ضغوط قاهرة تدفع للقتل؛ فذلك لا يحدث إلا في الهوائج العامة. أما تكفير هذا الفرد أو هذه الفئة فيأتي لدى المتدينين من العامة نتيجة فتوى أو أمر من جانب شيخ الطائفة أو مرجعها. وفي حين يكون ذلك لدى المرجع أو صاحب الفتوى نتيجة تشدُّدٍ أو لتحقيق هدف سياسي معيَّن؛ فإنه يعني من جهة ثانية عدم وجود ثوابت أو ضعف تأثير الثوابت في سياسات الدين. فحرمة الدم والعرض والمال تقع بين أقوى ثوابت القرآن والإسلام: «....من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناسَ جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (سورة المائدة: 32)؛ و«ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما» (سورة النساء: 93). وهكذا فإنّ التحول عن ثوابت الدين إلى فتاوى الأفراد هو بعينه الدخول في التشدد. والثوابت تتبلور وتتأكَّد من خلال النصّ، وتصبح «تقاليد» من خلال التجربة التاريخية للأمة أو للجماعة. ولذا فإنّ أولَ مظاهر التشدد هو التخلّي عن التقليد بحجة الاجتهاد والعودة المباشرة للكتاب والسنة أو للإمام. وهذا لا يعني في حالات التكفير بالفتوى أنّ النصوص تقول بالتكفير: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستَ مؤمنا تبتغون عَرَض الحياة الدنيا...» (سورة النساء: 94)؛ بل إنّ المتشددين من فقهاء الإحيائيات والصحويات هم الذين يدفعون عامة أتباعهم من خلال إعمال مبدأ «الولاء والبراء» لتجاهُل التجربة التاريخية للأمة وحياتها مع النص، وثوابت الدين التي صارت سلوكاتٍ مسلَّما بها.
والقرآنُ واضحٌ في دوافع هؤلاء لهذا الإحلال للدم والعرض والمال: «....تبتغون عَرَض الحياة الدنيا فعند الله مغانمُ كثيرةٌ كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبيَّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيرا» (سورة النساء: 94). وهذا يعني أنّ المكفِّرين المحلِّين للدم والمال يُغْرون أتباعهم بالغنائم التي يمكن أن يحصلوا عليها. ويدعوهم القرآن للتبصُّر والتبيُّن وعدم اتّباع الأوامر والفتاوى، فقد كانوا يفعلون ذلك من قبل في الجاهلية باتّباع تعليمات زعمائهم من أجل أمجاد القبيلة أو الثأر، ومن يتردد رغم ذلك يقال له: «ستحصل على الغنائم»! وقد تحدثت إلى بعض أنصار «داعش» و«النُصرة»، وذكرتُ لهم تقريرات شيخ السلفية الأكبر الإمام أحمد بن حنبل فتحيّروا وكلّموا بعض رؤسائهم ومفتيهم بالهاتف لسؤالهم عن هذه «الشبهات»، فنهوهم عن الاستماع إلى أي كان لأنّ المشكّكين هم إمّا من الروافض أو من عملاء بشار الأسد! وقد تحدثتُ إلى بدر الدين الحوثي (والد حسين وعبد الملك) عام 1989 بضحيان، وكان وقتَها مهتما بسبْي اليهود الذين في الجوار واغتنام أموالهم، قلتُ له: شيخك وزميلك مجد الدين المؤيّدي لا يقول بذلك، ويعتبرهم أهل ذمةٍ للمسلمين وما نقضوا العهد والعقد! فقال: «هذا هو الفقه القديم، وهو مثل الفقه الذي يعتبر السلفية والشافعية إخوانا لنا في الدين (!)»، فخفتُ من متابعة النقاش، وغيّرتُ الحديث!
إن هذه التشددات والعشوائيات غير التقليدية هي التي دفعت وتدفع الداعشيين إلى القتل والذبح والاغتنام للنساء والأموال، وهي التي دفعت حسن نصر الله للقول علنا إنه ذاهبٌ إلى سوريا لمقاتلة التكفيريين، وحماية مراقد ومزارات أهل البيت. فالتكفير مرضٌ نزل بديننا في زمن الظواهر الجديدة من السلفيات الجديدة، ومن ولاية الفقيه المطلقة، وكلتا الجهتين غادرت ثوابت الدين، ووضعت نفسها تحت سلطة فتاوى المكفِّرين باسم الدين وباسم المذهب.
ولنصل إلى الشقّ الخاصّ باعتبار النظام السياسي ركنا من أركان الدين. عند السنة هذه البدعةُ إخوانية. فعمل الدولة صار بحسبهم تطبيق الشريعة، ولا شرعية من دون تلك السطوة، والتنظيم ومُرشدُهُ هما الوحيدان المؤهَّلان لذلك! وعند الشيعة، صحيح أنّ الإمامة من أركان الدين، لكنها مؤجَّلةٌ لحين حضور المهدي المنتظر، وتكليف الفقيه كان حراسة هذا الانتظار. إنما مع الخميني حضر الإمام بكل صلاحياته، وصار الدين والدولة جميعا بيده. في الإسلام السني تآخت السلفيات الجهادية الجديدة مع الإخوانيات فصارت الخلافة المستجدة ركنا بعد غيابها عن تفكير السلفية لأكثر من مائتي عام. وفي الإسلام الشيعي صار الدين مَنوطا بحكم الأحياء من آل البيت، أما الآخرون فمهمتهم في هذه الدنيا طاعة الآل الأحياء، وحماية مراقد شهداء الآل!
ولا حاجة لتخصيص العنف بالحديث، فالتكفير يعني اصطفاءً واختصاصا لفئة، وإحقاق الشرعية بأي سبيل واجبٌ على تلك الفئة، وحقٌّ لها باسم الدين!
لا استمرار للدين وللمجتمعات والدول مع غلبة هاتين الفئتين على التفكير والتدبير. ولا أرى نضالا لدى الشيعة المتمايزين للخلاص من الإمامة المُزيلة لمعنى الدين. كما أنني لا أرى نضالا عند السنة للخلاص من داء التكفير، ودعاوى إحقاق الشريعة والشرعية.
لكنني لا أرى ثالثا ورابعا وخامسا سبيلا للخروج من هذين المرضين القاتلين إلاّ بالمؤسسات الدينية التي تتصدى لعمليات تحوير المفاهيم وتشويهها، وتعود للقيام بوظائفها في صَون وحدة العبادات، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام.
لدينا مؤسسات دينية ضخمة في السعودية ومصر والمغرب. ولا تزال بنيتُها سليمةً في الأعمّ الأغلب، بينما خَرّبت الطغيانيات والأُصوليات المؤسسات وشرّدت رجالاتها في أقطارٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ كثيرة. إنّ واجب الدين وحقّ المجتمعات علينا إعانة الجمهور على صَون عقائده من أخطار «التنقيب عن القلب»، وصَون دينه عن الدخول في بطن الدولة. الإمام أحمد بن حنبل قال: «المسلمون على ظاهر العدالة، ولا نكفّر مسلما بذنب، ونصلّي وراء كل إمام، ونجاهد مع كل أمير. وسيستقيم أمر الدولة في النهاية، لأنّ مصالح الناس جميعا وأمنهم متعلِّقٌ بها. أمّا الدين الذي تنتظمُ به عباداتُنا وأخلاقُنا ومعاملاتُنا وعلاقاتُنا ببني الإنسان، فهو محتاجٌ إلى نهضةٍ من جانبنا لحفظ ثوابته من تحريف المغالين وتأويلات المبطلين: «ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر وأولئك هم المفلحون» (سورة آل عمران: 104).