نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

أميركا.. الأذرع الطويلة والرؤى القصيرة

في تقويم رقمي للقوة العسكرية الأميركية، يظهر أنها لا تزال القوة الأولى في عالمنا المعاصر، وبوسع هذه القوة الكونية، بما لها من إمكانات أن تضرب في أي مكان على وجه الأرض، باستثناء دول الردع النووي المحمية بما لديها من إمكانات داخل حدودها وفي مجالات نفوذها التقليدي.
وهذه القوة الأميركية التي لا تبارى خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تعاني من ظاهرة غابت عن حسابات صناع السياسات الأميركية الكونية، وهي انعدام التوازن بين القوة العسكرية المتنامية وبين النفوذ السياسي المتراجع في كل القضايا الدولية.
وخلال حقبة القطبية الأميركية الأحادية، برزت ظاهرة لا تليق بإيقاع ونفوذ الدولة العظمى وهي أن ما من حرب دخلتها الولايات المتحدة في هذه الحقبة، إلا وأنهتها عسكريا بتفوق ملحوظ، وخسرتها سياسيا بصورة مأساوية.
وحسبنا أن نقرأ فصول الحروب في العراق وعليه، حيث عرفت أميركا كيف ومتى تبدأ، ولا تعرف حتى الآن كيف ومتى تنتهي، رغم أكثر من احتفال بالنصر، وأكثر من انسحاب تكتيكي واستراتيجي.
لقد ظهر من أميركا بالذات، مصطلحات مرتجلة وسطحية ولكن خلاصاتها كانت مأساوية وبصورة مفتوحة على مزيد من الفوضى والانهيار التي هي من النوع الذي لا تملك أميركا عزل نفسها عنها.
وفي سياق الحروب التي رافقت هذه المصطلحات الغريبة، مثل الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة، فإن نتائج هذه الحروب وإن كانت كارثية على منطقة الشرق الأوسط وأهله، إلا أنها أصابت في الصميم مكانة الولايات المتحدة بين حلفائها أولا، وفتحت لخصوم حلفائها المفترض أنهم خصومها مزايا اقتربت من بلوغ حالة من انقلاب التحالفات على نحو ينطبق عليه القول المأثور «خسرنا الأصدقاء ولم نكسب الأعداء».
وفي أيامنا هذه تتجلى المأساة الأميركية بأوضح صورها.. من خلال عنوان الحرب الراهنة، والتفسيرات الأميركية لها، والأغلفة السياسية الملفقة التي تسوقها لتبريرها، والعنوان «تحالف دولي ضخم تقوده أميركا على (داعش)»، وإذا كان منطق الأشياء يحتم قبول فكرة مكافحة «داعش» كعنوان ومضمون خطير للإرهاب الدموي المدمر ويبرر المشاركة المتحمسة لقوى ودول هذا التحالف لدرء الخطر المحدق والمتنامي عليها، إلا أن انحدار مستوى عناوين وأهداف الحرب الأميركية الراهنة يظهر بؤس الوضع الأميركي وفداحة الانحدار.. وانعدام التوازن بحدوده الدنيا بين القوة الأميركية الاستراتيجية المتفوقة، وبين النفوذ السياسي الأميركي في دائرة كانت مغلقة لأميركا فإذا بها ملتبسة وبصورة مريعة من حيث الخلاصات السياسية.
بإمكان التحالف الراهن أن يسحق «داعش»، ولا مناص من أن يفعل ذلك، وأن يأخذ بعصفه كثيرين على شاكلته، ولكن هل وضعت قائدة التحالف رؤية لما سيلي هذه الحرب، هل سيعود العراق دولة واحدة موحدة، وهل تعود سوريا كذلك، وهل تهدأ مخاوف من كانوا حلفاء بديهيين لأميركا، من حيث سياساتها، ونزوات تحالفاتها المتقلبة وغير المنطقية وذات المردود العكسي الدائم؟
ثم ماذا ستفعل أميركا بباقي الشرق الأوسط، بعد الانتصار المفترض على «داعش» – ومواجهة مشكلات مستعصية كانت «داعش» مجرد عامل طارئ في سياقها أو واحدة من إفرازاتها!
هذه أسئلة ما زالت أميركا تتجنب الإجابة عنها ولعلها تدرك أن سبب ما نحن وإياها فيه حقا هو تجنب الإجابة واعتمادها سياسة البدء بحرب دون التفكير بخلاصاتها السياسية، وهذا يعني أنها حرب لا ضمانة فيها باندلاع حروب جديدة بأشكال ومساحات مختلفة، الخلاصة الوحيدة لها، لا استقرار لا في الشرق الأوسط ولا حتى في أميركا ذاتها!!
فإلى متى تظل هذه الدوامة التي خلقتها أميركا أساسا في المنطقة تعمل بلا هوادة.. وإلى متى لا تعرف أميركا ماذا ستفعل بعد كل حرب؟