د. عبد العزيز بن عثمان بن صقر
TT

تباين في وجهات النظر

تباين وجهات النظر بين السعودية والولايات المتحدة حول منطقة الشرق الأوسط له خلفيات متعددة سبقت انطلاق الثورة السورية بسنوات.. فإدارة الرئيس أوباما، وخلال الفترة الأولى من ولايته، أطلقت وعودا براقة، للتعامل الفعال مع مشاكل المنطقة خاصة على صعيد التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، إلا أن هذه الفترة حملت خيبة أمل كبيرة في قدرة إدارة أوباما على الإيفاء بهذه الوعود، بل جاءت إخفاقات جديدة في ملفات متعددة كشفت عدم قدرة الإدارة الأميركية على ممارسة الضغوط اللازمة على إسرائيل من أجل استجابتها لتحقيق السلام، أو حتى إيقاف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، مما أدى إلى الانخفاض التدريجي في الثقة بقدرة الرئيس أوباما على التعامل الجدي أو المثمر مع قضايا المنطقة.
كما أن تجربة ثورات الربيع العربي عمقت أزمة ضعف الثقة في الإدارة الأميركية، فرغم أن المملكة وقفت إلى جانب هذه الثورات وساندت ظاهرة الربيع العربي، وقدمت الدعم للشعوب التي مرت بهذه الثورات، فإن هذه التجربة كشفت تخلي الولايات المتحدة السريع والمفاجئ عن «حلفاء أميركا» بشكل غير متوقع، مما كان مصدر قلق لجميع الحكومات التي تعد صديقة لواشنطن، فأسلوب تعامل الإدارة الأميركية مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لم يكن أسلوبا لائقا أو أخلاقيا عندما خرج مسؤول أميركي صغير (متحدث باسم وزارة الخارجية) يطلب علنا من رئيس دولة مصر التخلي عن منصبه ومغادرة السلطة. لذلك، ورغم التوافق السعودي – الأميركي حول تأييد الثورات العربية، كان هناك تباين حول أسلوب التعامل مع ملفات هذه المرحلة.
ومع أن المملكة تدرك حقيقة أن الحسابات الدولية لا تتطابق دوما مع الحسابات الإقليمية، وأن الولايات المتحدة تتصرف في منطقة الشرق الأوسط من موقع كونها القوة العظمى في العالم، فإن القيادة السعودية شعرت بضعف كبير في المواقف الأميركية والاختفاء التدريجي لهيبة أميركا في المنطقة، وأن «حكمة» إدارة أوباما بتجنب استخدام القوة تحولت إلى تخبط، وتردد خطير، وعدم قدرة على الحسم.
طريقة التعامل الأميركي مع الأزمة السورية كانت نقطة تحول في العلاقات السعودية – الأميركية، حيث ظهرت حالة من تعارض الأولويات، فموقف المملكة واضح ومعلن ينبع من قيم أخلاقية، إنسانية، وقانونية، ويهدف إلى ضرورة إنهاء المجازر التي يرتكبها النظام الديكتاتوري ضد الشعب السوري، ومنح الشعب فرصة لتأسيس نظام ديمقراطي. فيما بدت أولويات أميركا تركز على مقارعة تنظيم القاعدة (مئات من الأفراد) وتجاهل مصير عشرين مليون سوري أعزل، واستمرار نزف الدم، والتدمير المستمر الذي يتعرض له كيان الدولة والمجتمع.. وكان الاختبار المهم والحاسم لأخلاقيات وقيم الإدارة الأميركية يوم 21 أغسطس (آب) الماضي عندما استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي المحرم دوليا على نطاق واسع، وارتكب مجازر القتل الجماعي والعشوائي ضد 1600 ضحية من المدنيين الأبرياء في غوطة دمشق.. وللأسف جاءت هذه المجزرة التي ارتكبت مع سبق الإصرار رغم أن الرئيس الأميركي كان قد أعلن سابقا وبشكل شخصي وصارم أن استخدام السلاح الكيماوي سيكون «خطا أحمر»، وهدد برد فعل كبير لواشنطن في حالة ارتكاب هذه الجريمة، إلا أن النظام السوري أدرك من تجربته خلال فترة العامين الماضيين أن إدارة أوباما غير حازمة، وأن تهديداتها فارغة ولا قيمة لها، لذلك استخدم السلاح الكيماوي دون الخوف من العواقب، ولم تكن حسابات الرئيس الأسد خاطئة، فالإدارة الأميركية أثبتت عجزها وترددها في التعامل مع أزمة استخدام الأسلحة الكيماوية، وبالفعل حقق نظام بشار الأسد مكاسب كبيرة داخلية وخارجية، جراء ارتكابه جريمة استخدام السلاح الكيماوي، وعزز أسلوب تعامل الإدارة الأميركية مع استخدام السلاح الكيماوي انعدام ثقة المملكة العربية السعودية في إدارة أوباما، تلك الإدارة التي أظهرت التخاذل والتخلي عن موقع القيادة وعن المسؤولية الدولية التي تستوجب عليها بكونه الدولة العظمى الوحيدة في عالم اليوم.
الاختبار الآخر جاء إثر التدخل العسكري السافر لميليشيات حزب الله في سوريا، وعبور قواتها المدججة بالسلاح بشكل علني خط الحدود الدولية بأمر من النظام الإيراني، وعلى الرغم من أن هذه جريمة واضحة جراء عبور قوات غازية ومحتلة لحدود دولة أخرى وقتل شعبها، فإن الموقف الأميركي تخاذل تجاه هذا التطور الخطير، مما أضاف بعدا جديدا لسلسة التخاذل الأميركي، وما زلنا نشاهد يوميا ارتكاب النظام السوري جرائم جديدة ومتعددة من القتل العشوائي والإبادة الجماعية باستخدام قنابل البراميل المتفجرة، وسلاح الجو والمدفعية الثقيلة بكثافة ضد المدن المأهولة بالسكان، خاصة حلب، دون رادع أو خوف من العقاب، ولم تحرك الولايات المتحدة إصبعا واحدا أمام هذا السلوك الإجرامي غير المسبوق رغم الصور التلفزيونية التي تظهر قصف الأحياء السكنية دون هوادة ورغم تقارير المنظمات الإنسانية الدولية وشكواها العلنية.
تضاف إلى التباين في المواقف السعودية - الأميركية حول ملف الثورة السورية «ملفات ساخنة» متعددة تفصل بين المواقف السعودية والمواقف الأميركية، منها الموقف الأميركي المتخاذل تجاه الحكومة الطائفية في العراق، وفي الشأن المصري تجاهلت الإدارة الأميركية الظروف الاستثنائية التي رافقت سقوط النظام السابق ووصول الإخوان المسلمين إلى السلطة، وقدرتهم على استغلال هذه الظروف الاستثنائية وتمكنهم من سرقة ثورة الشعب، وتجاهلت سياستهم في السيطرة على السلطة وتبني عمليات مبرمجة لاستبعاد وإقصاء القوى السياسية الأخرى التي حملت ثقل الثورة المصرية، ومحاولاتهم لتغير طبيعة الدولة والمجتمع، وتجاهلت حقيقة أن الإخوان لم يحصلوا إلا على نصف أصوات الشعب المصري (في أحسن الأحوال)، وتغاضت عن الطبيعة الديكتاتورية لنظام الإخوان.
وغير خفي الحوار السري والمعلن بين واشنطن وطهران، وتقديم الولايات المتحدة تنازلات - لا تملكها - لإيران على حساب دول الخليج العربية، مما يهدد بإخلال التوازن الهش القائم في منطقة الخليج.
كل هذه القضايا والمسائل «التباينية» لم تعد سرا في ملف العلاقات السعودية – الأميركية، كما لا ترى المملكة خروجا أميركيا من نفق التخبط، وحالة التخاذل الأميركي غير المعهودة التي شهدتها المنطقة خلال ما يقترب من أربعة عقود.
* رئيس مركز الخليج للأبحاث