«التقرير السنوي الأميركي الدولي حول الحرية الدينية» هذا العام أعدّ قبل مأساة تهجير مسيحيي مدينة الموصل بشمال العراق، إلا أنه أشار مع ذلك إلى أن عام 2013 شهد أكبر حركات نزوح سكاني لأسباب دينية في تاريخ العالم الحديث. وأوضح التقرير أنه «في جميع أنحاء العالم تقريبًا أرغم الملايين من المسيحيين والمسلمين والهندوس وأتباع ديانات أخرى على مغادرة مساكنهم بسبب معتقداتهم الدينية، وسواءً بدافع الخوف أو التهديد باستخدام القوة تفرغ أحياء كاملة من سكانها».
في اعتقادي ثمة عاملان يستحقان تسليط الضوء عليهما في هذا الإطار: الأول هو ضعف القيادة العالمية المؤهلة لمعالجة ما غدا كارثة حقيقية تهدّد استقرار الدول على امتداد العالم. والثاني، وجود أزمة رؤية وإرادات على مستوى العالم الإسلامي تظهر تداعياتها إما في ظهور حركات يائسة متطرفة تقتل وتدمّر وتشرّد باسم الإسلام، أو معاناة شديدة للمسلمين على أيدي عنصريين من أتباع عقائد وأديان أخرى باتت تستحل إلحاق الظلم بالمسلمين بصورة استباقية بعدما ألصق أعداء المسلمين الإسلام كله بتهمتي الإرهاب والتطرّف.
هذا الواقع يذكّرني الآن بردّ لي – قبل بضع سنوات – على كاتب صحافي أميركي هاجم ما سماه «الإرهاب الإسلامي» وحمّل المسلمين المسؤولية عنه، بعدما اتهمهم بالسكوت عن التطرّف والتعصّب والإرهاب.
يومذاك، قلت في ردّي إن التصدّي لأي شكل من أشكال الإرهاب الديني يجب أن يقوده المعتدلون العقلاء من أتباع كل ديانة ومذهب... لا المتطرفّون أو المتعصّبون من أتباع الديانات والمذاهب من ديانات أو مذاهب أخرى، لأن التطرّف يجرّ التطرّف المضاد، والتعصّب يبرّر التعصب المضاد ويوفّر له الذرائع. وشرحت له أن على العقل الغربي البراغماتي ألا يتوقّع من المسلم المعتدل تأييد حملات تشنها قوى متعصّبة ومتطرّفة من أتباع ديانة أخرى على فريق مسلم حتى لو كان هذا المعتدل يناوئه ويعتبره متطرّفًا. والشيء نفسه ينطبق على أي شعب من شعوب الأرض، إذ لا أحسب أن المسيحي الليبرالي، مثلاً، ستسعده ضربة يوجّهها إلى متطرّفيه متطرّفون من المسلمين أو اليهود أو البوذيين أو الهندوس، لكنه لا يمانع إذا جاءت الضربة من قوى اعتدال بعيدة عن روح التشفي والانتقام.
وتابعت أن التعصّب والتطرّف والإرهاب آفات لا يحتكرها المسلمون بحال من الأحوال، فهي موجودة قبل قرون، وفي كل مكان... من «مجزرة القدس» الصليبية عام 1099 إلى «محاكم التفتيش الإسبانية» وتهجير المسلمين واليهود في «ريكونكويستا» شبه الجزيرة الإيبيرية، ثم «بوغرومات روسيا»، ولاحقًا «المحرقة النازية»، ومذابح التبادل السكاني في شبه الجزيرة الهندية عشية استقلال باكستان، بل حتى ضمن بيئات الديانة الواحدة راح ما بين 5 آلاف و30 ألفا من المسيحيين البروتستانت «الهوغونوت» على أيدي زُمَر مسلحة من الكاثوليك في مذابح اندلعت يوم القديس برثلماوس (بارثيليميو) عام 1572 في فرنسا. وحتى في الأمس القريب، مزّقت شبه الجزيرة الآيرلندية معارك طائفية بين الكاثوليك والبروتستانت لعقود.
لغة التطرّف والتعصّب تسود راهنًا مناطق عديدة من العالم. وحتى أكبر ديمقراطية في العالم انتخبت في الأمس القريب رئيس وزراء اتهم بالتعصّب ضد المسلمين في ولايته غُجَرات، والتواطؤ مع المتطرفين الهندوس ضدهم. غير أن أزمة القيادة العالمية - التي سبقت الإشارة إليها - تظهر في ديمقراطية كبرى أخرى هي الولايات المتحدة الأميركية. ومن الواضح أن الانكفاء الأميركي الذي مارسته وتمارسه إدارة الرئيس باراك أوباما كان عاملاً مساعدًا على انفلات الغرائز وتشجيع أفراد وجماعات لا تقيم وزنا للتعايش على أخذ زمام المبادرة.
لقد كان الموقف الأميركي السلبي المعيب في سوريا، مثلاً، أكبر هديّة يحصل عليها المتطرّفون الذين اختطفوا انتفاضة الشعب السوري... وحوّلوها إلى مشروع «دولة خلافة» تفهم السلطة قتلاً وقسرًا وتضييقًا وإلغاء للآخرين.
وتظهر سلبية سياسة واشنطن أيضا في خداعها نفسها بأنها تركت عراقًا آمنًا وديمقراطيًّا بينما الحقيقة المرّة ماثلة للعيان. فالبلد تتناهشه اليوم قوى التطرّف الشيعي والسنّي ويهجره المسيحيون، وتنأى به عن مستنقع الدم مناطق الأقلية الكردية التي أسّست عمليًّا كيانها المستقل.
ثم إن الأراضي المحتلة في فلسطين دفعت وتدفع ثمنًا باهظًا لسلبية واشنطن إزاء سياسة الاستيطان وقضم الأرض وإحجامها عن لجم غلاة المستوطنين الإسرائيليين الذين أوجد رُعاتهم من قادة الليكود الأرضية المناسبة لنمو تيار إسلامي متشدّد يواجه الشعارات التوراتية بشعارات قرآنية على ركام منطق الاعتدال عند الجانبين.
في كل مكان، حتى في أوكرانيا، أدى انعدام روح القيادة سواءً في واشنطن أو على مستوى الأمم المتحدة، إلى تصاعد التعصّب وتزايد الأحقاد.
عند هذه النقطة ننتقل إلى العامل الثاني. إذ لا بديل اليوم أمام المسلمين عن التحرّك لإنقاذ الإسلام وسمعته وتراثه الحضاري، ناهيك من مصالح أبناء الإسلام في العالم، من أذى مَن يدّعون التكلم باسمه ويسعون لاحتكاره زورًا وبهتانًا. هنا الحق على المسلمين... والمسؤولية تقع عليهم.
ها هي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)» تمثل هذه الأيام الدور نفسه الذي أدّته «القاعدة» في سبتمبر (أيلول) 2001، ويومذاك كان موقف العالم الإسلامي حازمًا وقاطعًا في إدانته اعتداءات 11 سبتمبر. ثم إن «جبهة النصرة» التي تطرح نفسها على أنها أقل تطرّفًا وأنقى أهدافا من «داعش» ما زالت على بيعتها لقيادة «القاعدة». وفي الحصيلة النهائية وفّر التنظيمان الذريعة الجاهزة لكي يطعن المجتمع الدولي انتفاضة الشعب السوري في الظهر، ويتغاضى عن مطامع إيران في المنطقة وجرائم الليكود في الأراضي الفلسطينية. ولنتذكر أن معظم قتال «داعش» ضد قوى الثورة، بينما أسهمت «النصرة» من حيث تدري أو لا تدري في تعذّر بناء مناطق محرّرة قادرة على تأمين الأمان والخدمات الحياتية.
نعم، على المسلمين قبل غيرهم المبادرة منذ الآن على تطهير بيتهم، والتصدّي لمتطرّفيهم، وتأكيد حقيقة الإسلام السمح للعالم.
مناظر الدمار في الموصل وحلب وغزة تختصر المأساة ببلاغة.
8:37 دقيقه
TT
تجاوزات «داعش» مسؤولية إسلامية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة