قبيل الغزو الأميركي للعراق قرأت تصريحا للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش جاء فيه: «إن كتابه المفضل (والعبارة المستعملة هي الكتاب الذي يضعه قرب سريره ويقرأه قبل أن يستسلم للنوم) هو كتاب «شارنسكي» عن الديمقراطية. وشارنسكي كاتب سياسي يهودي روسي هاجر من الاتحاد السوفياتي في التسعينات إلى الولايات المتحدة، حيث اكتسب نوعا من الشهرة. قمت بشراء الكتاب وقرأته بإمعان فإذا هو مرافعة طويلة عن الديمقراطية، ولفتني تركيزه على الشرق الأوسط وتأكيده على أن السلام بين العرب وإسرائيل لن يتحقق طالما أن معظم الدول العربية محكومة ديكتاتوريا. فهذه الأنظمة الديكتاتورية، في نظره، إنما تتذرع بمقاومة الخطر الإسرائيلي لكي تبرر سلطويتها وتستمر في الحكم، وإن السبيل الوحيد لتحقيق السلام في الشرق الأوسط هو في قيام أنظمة ديمقراطية محلها.
لست أدري هل كانت {القناعة البوشية} بنظرية شارنسكي وحدها وراء إعلان الحرب الأميركية على العراق؟ أم كانت التقارير المزورة عن امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل؟ أم كان ضغط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة على وزير الدفاع رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني، في هذا الاتجاه؟ ولكن ما أثبتته الأيام هو أن فرض الديمقراطية بالقوة على العراق أدى إلى تفكيك وحدته الكيانية الوطنية وإلى فوضى سياسية ومجازر طائفية ومذهبية، وصولا إلى ما وصل إليه هذا البلد العربي الغني برجاله وموارده والحارس الشرقي - سابقا - لعروبة المنطقة.
أسارع بالقول مستدركا إن الديمقراطية ليست هي المسؤولة عما حل بالعراق وما آل إليه من تفكك وفوضى وضياع، وإن «المؤامرة» العالمية على العرب والمسلمين ليست هي مصدر ما حل بهم من مصائب ونكبات. فمهما كانت سيئات الديمقراطية فإنها - على حد قول تشرشل - «أسوأ أنواع أنظمة الحكم باستثناء الأنظمة الأخرى». ولكن فرض الديمقراطية بقوة السلاح على شعب غير مستعد لهضمها ولممارستها كما يجب أن تمارس، لا يخلو من المخاطر ويؤدي أحيانا إلى عكس الغاية المتوخاة منها وهي تحقيق الاستقرار والعدالة والحرية في المجتمعات. وصحيح أن تدخل الدول الكبرى في شؤون العرب حماية لمصالحها، سابقا وحاضرا، يمكن أن يتحول إلى شبه مؤامرة دائمة. ولكن المؤامرة الحقيقية على العرب والمسلمين إنما تنسجها الصراعات السياسية والمذهبية والقبلية والطبقية التي لم يتمكنوا من التخلص منها وما زالت تمزقهم وتفتت شملهم.
لقد صفق العالم عام 2011 لما سمي بالربيع العربي الذي أطاح بديكتاتوريات عربية. ولكن هذا التصفيق لم يستمر طويلا، إذ تحول هذا «الربيع» إلى سلسلة من المآسي الوطنية والقومية المتمادية والمتفاقمة والهابطة بالعرب والعروبة إلى حضيض التشرذم والضياع وتشوه السمعة في العالم. وليس هناك، وبعد ثلاث سنوات من حدوث هذه الثورات العربية، أي بريق أمل في الأفق يبشر بخروج العرب من هذا الواقع الدامي الخطير، لا سيما عن طريق الديمقراطية.
لقد انتهيت من قراءة كتاب جديد صدر في الولايات المتحدة عنوانه «الثورة الرابعة» يتحدث فيه مؤلفاه عن ضرورة تغيير أو تجديد أنظمة الحكم الديمقراطي في الغرب بعد أن دخل العالم عصر الثورة التكنولوجية والإنترنت والعولمة، ويقترحان تقليص دور الدولة وحجمها ومسؤولياتها الاجتماعية. فأين نحن العرب والمسلمين، من هذه الثورة الرابعة ولم نحقق، بعد، الثورات الثلاث التي حققها الغرب وصولا إلى الدولة الحديثة، ونعني ثورة الحرية وثورة الديمقراطية وثورة العدالة الاجتماعية؟
بل إن ما يطل في أفق المصير العربي هو هذا الجنوح الفكري السياسي الذي يطرح نفسه بديلا عن كل التجارب والأنظمة السياسية التي عرفها العالم شرقا وغربا والذي يتجسم في {داعش} و{القاعدة} ودولة الخلافة الإسلامية والتنظيمات الجهادية المتطرفة التي أعلنت الحرب على العالم وكل من خالفها الرأي، والتي ترى خلاص الأمة العربية والإسلامية في العودة بالإنسان والمجتمعات ألفا وخمسمائة عام إلى الوراء، متجاهلة ما استجد في حياة الإنسان والمجتمعات البشرية من تطور وتقدم وتغيير، غير متعظة بفشل التجارب السياسية العقائدية التي عرفها العالم العربي، والتي كان القائمون بها يعتقدون بأن الشعارات والعناوين الكبيرة هي التي تنقذ الإنسان وتبني المجتمعات والدول، وليس العلم والعمل والحرية والسلام.
ترى أي رسالة روحانية أو حضارية يحملها إلى العالم هؤلاء الذين بدأوا «خلافتهم» برجم النساء أو سجنهن في المنازل وفرض الجزية على الأقليات غير المسلمة ومنع الغناء والموسيقى وإعلان الحرب على الدول الكبرى؟ أهذا هو الطريق الصحيح لتحرير الإنسان العربي وبناء دولة محترمة في عالم التكنولوجيا الحديثة؟
كلا، حتما. بل إن هذا القناع غير الحضاري وغير الإنساني بل والعبثي إن لم نقل المتوحش الذي ألبسوه للإسلام والذي يرفضه كل مسلم مؤمن بالمبادئ السامية التي أمر بها الله، إنما هي المؤامرة الحقيقية على العرب والمسلمين لأنها تخدم أعداءهم وتحمل الدول الكبرى والعالم على معاداتهم.
8:7 دقيقه
TT
مؤامرة العرب على أنفسهم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة