صراعات المنطقة شديدة التعقيد، وتشابكات المصالح وتناقضات السياسة تفرض نفسها على كل المشاهد، الفرز معقدٌ والتوصيف صعبٌ والتحليل الصائب عسيرٌ، ولكنّ هذا شأن التاريخ والسياسة على الدوام، فالتاريخ ماضٍ باستقراره وتقلباتها وبمنحنياته وتعرجاته، إنه لا يعيد نفسه إلا في بعض المشاهد الراكدة الضيقة، والفاعلون فيه يؤثرون بهذه الدرجة أو تلك في حراكه وتغييراته عبر السياسات والاستراتيجيات.
لم تتوقف الصراعات الكبرى عبر القرن الأخير من تاريخ العالم والمنطقة، ولكن هذه الصراعات والتعقيدات كانت تجري في الغالب بعيدا عن منطقتنا، وتختلط بمنطقتنا بشكل أو بآخر عبر قضية فلسطين، وعبر انقلابات العسكر وثورات اليسار والشيوعية والقومية.
دوليا، ظلت المنطقة حاضرة في الصراعات الدولية بسبب الخلافة العثمانية وسعي العرب للتخلص منها، التي تلتها مرحلة الاستعمار ومحاولات التخلص منه، ثم جاء فرض دولة إسرائيل ليشكل مرحلة جديدة في التاريخ العربي خرجت على أثرها سيطرة الخطابات القومية واليسارية المؤدلجة بشتى أصنافها وأحزابها، وحين فشلت تلك الخطابات بدأت مرحلة صعود خطابات الإسلام السياسي بعد هزيمة 67 بشكل أكبر وأقوى تأثيرا، فتحالف معها السادات قبل أن تقوم باغتياله ونجحت في إيران.
ويمكن اختصار تلك المراحل بأنها مراحل تضييع الرأي الصائب، فقد كانت تضيع في كثير من تلك المراحل الآراء الصائبة التي تطرح على خجلٍ أو تكون عابرة أو تأتي متأخرة، لا لشيء إلا لضعف الآراء السياسية الواقعية والعقلانية عن مواجهة ضغوطات الآيديولوجيا وغوغائية الجماهير والمصالح الضيقة.
اليوم مع كل الفوضى المتفشية والأصولية المتفجرة طائفية وعنفا وحركاتٍ وتنظيماتٍ متعددة الولاءات وعابرة للحدود، وصعوبة الفرز بين الحقيقة والوهم، وبين الصواب والخطأ، يمكن لسؤال «من المستفيد؟» أن يضيء جوانب مهمة من تلك الفوضى الغارقة في التطرف والدماء.
فمن المستفيد من كل هذه الطائفية والدماء والفوضى؟ إنها الجمهورية الإسلامية في إيران، ولنعد للتاريخ القريب حين خدع الكثيرون بـ«حزب الله» المقاوم والممانع سنين عددا ودافعوا عنه بكل ما امتلكوا من ثقافة ومعرفة، أولئك الذين خانهم الوعي الزائف ومنعهم من رؤية حقيقة الحزب حتى كشر عن أنياب الطائفية الدامية بتدخله البشع في سوريا، كما خدع الكثيرون - كذلك - بحركة حماس الإخوانية التي شقت الصف الفلسطيني وأصبحت بكل سياساتها أداة تحركها الاستراتيجية الإيرانية، ونحن نتذكر نقضها للعهود في الحرم المكي وعودتها سريعا للمحور الإيراني، ثم تحول بوصلتها للهجوم على الدولة المصرية في خضم فوضى 2011 وتوقفها التام عن أي عملٍ يستفز إسرائيل في فترة حكم الإخوان لمصر حين كان الرئيس الإخواني محمد مرسي يخاطب رئيس إسرائيل بعزيزي وصديقي ويوقع له الصديق الوفي، فحماس باختصار لا تتحرك إلا بحسب التوقيت المصلحي لإيران، وهي تعتمد على قداسة القضية الفلسطينية التي تعتقد أنها تمنحها القدرة على مواجهة الانتقادات السياسية التي توجه إليها، ولكن اللعب أصبح على المكشوف ولم تعد تنطلي مثل هذه الألاعيب على أحدٍ إلا مؤيدي الحركة المؤدلجين وعناصرها المغيبة عن الوعي. وهي جنت وتجني على الشعب الفلسطيني في غزة وجرّت وتجر عليه الويلات والحروب لا لمصلحته، بل لمصلحة إيران، فمن ينقذ هذا الشعب المسكين من هذه الحركة المسيسة التي تحكمه بالحديد والنار؟
وقد خدع الكثيرون بدعاوى الجهاد المؤدلجة، وظلّ المستفيد الوحيد من تحركات جماعات العنف الديني السنية والشيعية هو إيران، لا تختلف في ذلك «القاعدة» عن «داعش»، ولا «حزب الله» عن جماعة الحوثي، ولقد كان لدى «داعش» فرصة لفتح مواجهة مع إيران كانت ستخلط الأوراق كلها، ولكنها لم تفعل وحرصت على استهداف السعودية من الشمال وتحركت «القاعدة» من الجنوب، في توقيت متزامن. إنها لعبة كبرى تديرها إيران ويخدمها عملاؤها الأصوليون من قيادات تلك الجماعات ويحترق الشباب المغرر به حطبا في أتون تلك الحروب.
يكتنز الطموح الإيراني التوسعي لبسط النفوذ على منطقتنا عدة عوامل متداخلة من الإرث الإمبراطوري القديم إلى الأصولية المسيّسة إلى دولة واحدة ذات قرارٍ موحدٍ، مع وضوحٍ في تبنّي الطائفية الصارخة باعتبارها تمثّل شيعة العالم، بالإضافة إلى خبرة طويلة في بناء أو دعم الجماعات المعارضة للدول العربية وأهمها جماعات العنف الديني والإرهاب.
واحدٌ من أهم مشكلاتنا مع إيران هو نجاح اللوبي الإيراني في مراكز الدراسات والبحوث الغربية وبعض دوائر صنع القرار، وبخاصة في الولايات المتحدة، في إقناع المثقفين والساسة بأنها دولة ديمقراطية حديثة، وليست دولة أصولية طائفية بحكم الدستور والواقع، وهي جهودٌ لم تقابلها الدول العربية بالمثل حتى الآن على الأقل.
وفي امتدادٍ لهذا الخطّ فإن إدارة الرئيس أوباما التي تتبنّى بوضوحٍ سياسة الانعزالية والانسحاب من العالم، ومع كل الفشل الذي منيت به في كل ملفات المنطقة، إلا أنها تراهن على صناعة اختراقٍ دبلوماسي في التواصل مع إيران لتتمكن من الحديث مستقبلا عن نجاحٍ واحدٍ في السياسة الخارجية، ويبدو أن ملالي إيران يفهمون جيدا هذا التوجه، وهم لن يعطوا هذه الإدارة أي تنازلات وإن استغلوها لكسب الوقت.
الولايات المتحدة ومعها دول الـ«5+1» تفاوض إيران على ملفها النووي فحسب، إنها لا تفاوضها على رعايتها لجماعات الإرهاب السنية والشيعية، ولا على تدخلاتها في الشؤون الداخلية للدول العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، التي وصل بعضها لإرسال قواتٍ مسلحة وقادة عسكريين ومقاتلين طائفيين، كما أنها لا تفاوضها على قتل الشعب السوري والعراقي واليمني، ولا تفاوضها على نشر خلايا التجسس في دول الخليج العربي، كلّ هذه الملفات تعني دول الخليج بشكلٍ أساسي، وما لم تتفهم الدول الغربية هذه التوجسات العربية، فإن شيئا لن يتغير في الصراعات الكبرى في المنطقة.
أخيرا، فقد ظلّ الأمر على هذه الحال سنين طويلة، ولكن الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية غيرت من مواقفها السياسية لدعم الشعوب العربية في الحصول على حقوقها، ودعمت الدول العربية في الظفر باستقرارها، ففي سوريا كانت مبادرة في قيادة المواقف العربية والدولية الداعمة للشعب السوري ضد بشار الأسد، وفي مصر دعمت استعادة استقرار مصر، ومن قبل دفعت بقوّات درع الجزيرة لحماية البحرين، وقدمت مبادرة للحل السياسي في اليمن، وهي اليوم تسعى لدعم حل سياسي ينقذ العراق من أتون الطائفية والإرهاب.
5:4 دقيقه
TT
إيران والفوضى العربية.. من المستفيد؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة