إذا كان ثمة ميزة شخصية يتفرد بها الرئيس دونالد ترمب عن أسلافه من الرؤساء الأميركيين فهي، قطعا، قدرته المذهلة على مفاجأة العالم بقرارات غير متوقعة.
هذه الظاهرة وضعته، بنظر الإعلاميين والمحللين السياسيين، في خانة الرؤساء الصعب التكهن بقراراتهم حتى قبل استحقاق موعدها بفترة وجيزة.
إرجاء نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس قد يكون أحد أكثر قراراته المفاجئة، للعرب والمسلمين على الأقل، بعد أن كان نقلها إلى القدس وعداً بارزاً، ومكرراً، في حملته الانتحابية.
إلا أن المستغرب في ردود الفعل الخارجية على قرار ترمب أن يعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن «غضبه» من موقف الرئيس الأميركي وهو الأدرى بالظروف السياسية التي استوجبته:
داخلياً، يمر دونالد ترمب بأحرج ظروفه إذ تضغط على رئاسته التحقيقات الجارية حول تدخل روسيا في معركته الانتخابية وقد تطال زوج ابنته، جاريد كوشنر.
وخارجياً يتعرض ترمب لحملة تنديد أوروبية واسعة على قراره سحب عضوية الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، فيما تهتز ثقة حلفائه الأطلسيين بعمق التزام إدارته بالحلف في أعقاب الشروط التي فرضها عليهم... ما يجعله بغنى عن فتح باب آخر لانتقاد إدارته خصوصا من حلفائه العرب والمسلمين في حربه على الداعشيين - أولى أولوياته في الشرق الأوسط.
ولكن، خلافاً لما يوحيه قرار الرئيس ترمب من «ابتعاد ما» عن نهج تأييد إسرائيل في السراء والضراء، يؤكد اتخاذه للقرار قربه من إسرائيل واللوبي الصهيوني في واشنطن إلى حد التصرف بحرية - كي لا نقول بجرأة - في التعامل مع وعده الانتخابي.
في الواقع، لم يسبق لأي رئيس أميركي أن اختار يهودياً أرثوذكسياً متصهيناً مثل جاريد كوشنر ليكون كبير مستشاريه لشؤون «سلام الشرق الأوسط»، كما لم يسبق لأي رئيس، أن اختار مستشاراً مقرباً منه عائلياً مثل صهر الرئيس كوشنر.
على ضوء خلفيتيه السياسية والعائلية، لا يجوز التشكيك في تفهم الرئيس ترمب لمشاعر يهود الداخل ولا متطلبات «ليكود» إسرائيل. وإذا كان ثمة خلفية «لغضب» نتنياهو فقد يكون عجزه عن اتهام ترمب بمعاداة إسرائيل.
بادئ ذي بدء لم يتراجع ترمب عن وعده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس بل «أرجأ» تنفيذه لأسباب تخصه شخصيا أكثر مما تخص أي جهة أخرى، رغم الإرجاء يوحي أنه إذا كان بوسع دونالد ترمب «المرشح للرئاسة»، بذل وعود انتخابية واسعة فإنه يتعذر على دونالد ترمب «الرئيس المنتخب» تحقيقها دون الأخذ في الاعتبار ظروفا سياسية من الصعب إغفالها.
على هذا الصعيد يصعب على أي رئيس أميركي تجاهل «ثوابت» وزارة الخارجية الأميركية حيال النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي التي حالت، حتى الآن، دون إقدام أي رئيس سابق على تنفيذ قانون أصدره الكونغرس عام 1995، يوصي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة. ورغم أن واشنطن اشترت، خصيصا، في جنوب القدس، قطعة أرض لتشييد مبنى سفارتها الموعودة، لا تزال هذه القطعة شاغرة.
كل الرؤساء الأميركيين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض منذ العام 1995 فضلوا تجاهل توصية الكونغرس - في الظاهر لدواع «أمنية»، وفي الواقع احتراماً لقرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين (عام 1947) الذي نص على إبقاء مدينة القدس كياناً منفصلاً عن الدولتين الفلسطينية واليهودية.
من المفترض أن يكون الرئيس ترمب استشار وزارة خارجيته قبل اتخاذ قرار إرجاء نفل السفارة الأميركية. وإذا كان فعل ذلك وقدّم، عن قناعة، رأي الوزارة على نصائح صهره... يجوز عندئذ توقع انضمامه إلى صفوف أسلافه من رافضي نقل السفارة إلى القدس المحتلة... مكرهاً لا بطلاً.
7:52 دقيقه
TT
ترمب... بين القدس وتل أبيب
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة