ديفيد بروكس
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

مشروع التنوير... ما له وما عليه!

من شأن الوجود في فصل دراسي أن يوسع من مداركك. على سبيل المثال، الأسبوع الماضي، كنا على وشك الانتهاء من فصل دراسي عن الخطط الاستراتيجية عندما قام زميلي بجامعة ييل، تشارلز هيل، بعمل رسم بياني على السبورة، يوضح فيه أحداث الساعة من منظور شامل. وفي وسط رسم بياني، هناك خط طويل يشير إلى التنوير، ويتضمن التنوير مفكرين مثل جون لوك، وإيمانويل كانت، اللذين جادلا بأنه على الناس الكف عن الإذعان بشكل أعمى فيما يخص طريقة العيش، وأن عليهم التفكير في الأشياء من أسفل لأعلى واحترام الحقائق، واختبار فرضياتهم الخاصة ومعتقداتهم بعقلية المتشكك. وقد حول مفكرو التنوير أفكارهم المتشككة إلى مؤسسات متشككة، أبرزها الدستور الأميركي. فمؤسسو الولايات المتحدة لم يثقوا بالناس ولا حتى بأنفسهم، ولذا فقد وضعوا قواعد بنظام محدد، وقدموا الشيكات والأرصدة ليضعوا المصالح في مواجهة بعضها البعض. جاء دي توكيفيلي ليقول لو أن الحكومة الديمقراطية التي تستند إلى القواعد سيكتب لها النجاح في أي مكان، فهذا المكان هو الولايات المتحدة. فقد أصبحت الولايات المتحدة المكان موضع الاختبار لمشروع التنوير بالكامل. وفي ضوء عدم ثقته بحكم الغوغاء واحترامه للقانون، كان أبراهام لنكولن رجل تنوير كلاسيكياً. فقد جاء نجاحه في الحرب الأهلية ليبرهن على إيمانه بالديمقراطية، وبقضية التنوير كلها.
وفي القرن العشرين، وسع قادة التنوير من نطاق مشروعهم عالمياً بأن بنوا مؤسسات متعددة الأطراف تحكمها قواعد مثل الاتحاد الأوروبي، وحزب شمال الأطلسي (ناتو)، لتقييد التهديد باستخدام القوة وتحفظ توازن القوى. فقد وهبنا مشروع التنوير العالم الحديث الذي نحيا فيه، لكننا علينا أن نقر بما فيه من نقاط ضعف. أولاً، يفتقر مشروع التنوير إلى المعنى، فهو يتعامل مع الناس بوصفهم مخلوقات عقلانية أنانية عديمة العاطفة، وأنها تعمد على إنتاج حكومات يديرها تكنوقراط بلا روح. ثانياً، يتعرض حكم التنوير للفشل بين الفينة والأخرى، وفي هذه الأوقات تحصل الحركات المناوئة للتنوير على الزخم. وفي خضم انهيار الأنظمة القديمة أثناء الحرب العالمية الأولى، هاجم الماركسيون فكرة الملكية الخاصة، وهذا ما جلب لنا لينين، وستالين، وماو. وبعد فشل قاطني قصر فرساي، هاجم أنصار نيتشه فصل القوى، مجادلين بأن القوة يجب أن تتركز في يد الفائزين في المجتمع، أي في السباق الأكبر، وهذا ما جلب لنا هتلر والنازيين. وأشار تشارلز هيل إلى أن قوى التنوير كانت تنتصر دوماً على التهديدات المقاومة للتنوير. فعندما انتهت الحرب الباردة، بدا أن مشروع التنوير قد انتصر، لكن الآن نعيش في ظل سلسلة من الإخفاقات، منها الأزمة المالية، والانهيار البطيء للمشروع الأوروبي، وأزمة العراق. لكن المثير في الأمر، وفق تشارلز هيل، هو أن تقاليد مقاومة التنوير قد عادت. عاد فكر نيتشه في هيئة فلاديمير بوتين، وعاد الفكر الماركسي في هيئة الصين، فروسيا والصين تحاولان جني ثمار نظام التنوير، لكنهما أيضاً تريدان كسر القاعدة. فهما تجسدان أشد أنواع فكر مناهضة التنوير، وتعملان على تقويض نظام عالم ما بعد التنوير. لم يقل تشارلز هيل ذلك صراحة، لكنني أضيف أن التفكير المناهض للتنوير أيضاً قد عاد في صورة العنصريين والانفصاليين، وغيرهم من الحركات الشعوبية العرقية القومية. لا ترى الحركات المناهضة للتنوير اليوم أن الحقيقة تكمن في التساؤل المتشكك والنقاش. فتلك الحركات ترى أن الحكمة والفضيلة تكمنان في البسطاء من الناس بصورة غريزية وفي أعماق الضمير الإنساني، أو في الضمير الجمعي للبشر. وللحركات المناهضة للتنوير اليوم إيمان ضئيل بسبل الإقناع الهادئ، وبالبحث المستند إلى الأدلة، على عكس إيمانها الكبير بصفاء الإرادة. فتلك الحركات تحاول الانتصار في المناظرات من خلال القوة الفظة وإخراس الأحاديث غير المقبولة. فهم لا يرون التاريخ كمسير تدريجي تجاه التعاون، بل كدوائر عنيفة، أي بمعادلة صفرية مرتبطة بصراع، بأن نرى دولاً تحاول لي ذراع دول أخرى، وشعوباً تحاول اضطهاد شعوب أخرى. فتلك الحركات مناوئة للأنظمة التي تحكمها القواعد وللمنظمات متعددة الأطراف وللحلول الوسط غير المرتبة للسياسة الديمقراطية، وهو ما يطلق عليه ستيف بانون «دولة الإدارة». فتلك الحركات المناهضة للتنوير تفضل الخضوع المباشر لحكم رجل قوي يرون فيه تجسيدا لإرادة الناس. وعندما ظهرت الحركات المناهضة للتنوير في الماضي، ظهر فرسان التنوير لمحاربتهم. فلنكولن لم يكن تكنوقراطياً عديم الروح، فقد حارب التعصب عن طريق مضاعفة أساليب التنوير، بإعلاء قيم الإحسان واستخدام العقل والصبر، وعمل بلا كلل في سبيل الوحدة، لا الانقسام. وكان متشائماً متفائلاً في آن؛ فقد كان على يقين من أن أمد الصراع طويل، لكنه كان مؤمناً بأن العدل سينتصر في النهاية. فنحن الآن نعيش في وقت فقد كثير من الناس فيه الإيمان بعادات التنوير وفي مؤسساته، وأتساءل ما إذا كنا سنرى مجموعة من القادة تنهض لتدافع عن هذا المشروع ببسالة، أو حتى تعترف بأنه الشيء الجوهري الذي بات عرضة للهجوم الآن.
* خدمة «نيويورك تايمز»