الشعبوية بين الحقيقة والزيف

يبدو أن وتيرة زحف السلطات التي تضمر عداءً ظاهرًا للأقليات تسارعت عبر دول الغرب. فبعد أن كانت تحكم سيطرتها على حكومات المجر وبولندا، باتت الآن قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وباتوا يعملون على تنظيم صفوفهم عبر الحدود. فحزب الحرية النمساوي الذي أسسه النازيون القدامى وقع اتفاقًا مع الحزب الحاكم في روسيا، واجتمع أخيرًا مع من اختاره ترامب مستشارًا للأمن القومي.
لكن ما عسانا أن نسمي مثل تلك الجماعات؟ فكثير من الصحافيين يطلقون عليهم اسم «الشعبويين»، وهي تسمية غير ملائمة ومضللة. وأعتقد أنه من الممكن النظر للعنصرية باعتبارها شعبوية، بمعنى أنها تعكس رؤى بعض الناس من غير الصفوة. لكن هل السمات المشتركة الأخرى لتلك الحركة - والمقصود هنا إدمان نظريات المؤامرة، واللامبالاة لحكم القانون، والولع بمعاقبة المنتقدين - هي بالفعل من سمات «الشعبويين»؟
غير أن الأوروبيين من أعضاء ذلك التحالف الجديد - محور الشر - قدموا بعض المزايا الحقيقية للعمال، حيث قدم حزب فيديز المجري بعض تسهيلات الرهن العقاري والتخفيضات في أسعار الوحدات السكنية، في حين رفع حزب القانون والعدالة البولندي المزايا الممنوحة للأطفال، ورفع الحد الأدنى للأجور وقلل سن التقاعد. في حين اتخذت الجبهة الوطنية الفرنسية موقف المدافع عن رفاه المواطنين، ليس كل المواطنين، فقط من تراهم على حق.
غير أن المنهج «الترامبي» جاء مختلفًا عن كل ما سبق، فربما حملت شعارات حملته الانتخابية وعودًا بالإبقاء على الرعاية الصحية وشبكة الأمان الاجتماعي وإحلال مشروع «أوباما كير» الصحي بما هو «أفظع»، لكن أجندته السياسية قد توصف بأي شيء غير أنها شعبوية.
فكل الدلائل تشير إلى أننا ننظر إلى مكاسب ضخمة لطبقة المليونيرات تتزامن مع تقليص أضخم في برامج تخدم الفقراء والطبقة المتوسطة على حد سواء. وتعد الطبقة العاملة من البيض، التي ساهمت بنصيب وافر في نسبة 46 في المائة من الأصوات التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض، من ضمن أكبر الخاسرين.
بالفعل ليست لدينا حتى الآن مقترحات سياسية تفصيلية، لكن اختيارات ترامب لإدارته القادمة أظهرت قوة الريح المقبلة.
بمعنى آخر، فإن الحركة الآخذة في التشكل هنا تختلف عن نظيرتها في أقصى اليمين بأوروبا، قد تشتركان في العنصرية وازدراء الديمقراطية، لكن الشعبوية الأوروبية حقيقة ولو جزئيًا، في حين أن شعبوية ترامب اتضح زيفها كليًا، وأنها ليست سوى عملية احتيال بيعت للناخبين من الطبقة العاملة الذين جرى إيقاظهم بشكل غير لائق، فهل يدفع النظام الجديد ثمنًا سياسيًا؟
حسنًا، لا ترتكن كثيرًا إلى ذلك، فتلك الملحمة الخادعة، والنصب على الناخبين من شأنهما أن يمنحا أنصار الحزب الديمقراطي فرصة سياسية. لكن لا بد أنك تعلم أن جهدًا كبيرًا سيبذل لتغير اتجاه اللوم، وسيشمل ذلك مزاعم أن انهيار برنامج الرعاية الصحية كان خطأ يتحمله الرئيس أوباما، ومزاعم أن فشل توفير البدائل هو خطأ أنصار الحزب الجمهوري المتمردين، بالإضافة إلى سلسلة لا نهائية من محاولات تشتيت انتباه الناس.
توقعوا مزيدًا من الشجب الموجه للأقليات، وعلينا أن نتذكر ما اعتادت الأنظمة الاستبدادية على فعله للفت الأنظار بعيدًا عن سياساتها الفاشلة بأن تبحث عن بعض الأجانب لتقف في مواجهتهم. فقد تكون الحرب المقبلة تجارية مع الصين، وقد يكون هناك ما هو أسوأ.
يحتاج الخصوم إلى بذل كل ما بوسعهم لهزيمة استراتيجيات التشتيت تلك، والأهم هو أنه يجب عليهم ألا ينجرفوا في تعاون قد يتركهم عرضة لتحمل جانب من الاتهامات، فكل من وقف خلف تلك الخديعة يجب أن يجبر وحده على تحمل تبعاتها.
*خدمة «نيويورك تايمز»