سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أنقذونا من المؤتمرات!

نظرة سريعة على النصّ العجيب لمباراة الإملاء التي أجريت في لبنان، احتفاء بـ«اليوم العالمي للغة العربية»، وتتأكد أن المشكلة في النفوس عميقة ومتأصلة. فرق بين أن يختار المنظمون نصًا صعبًا وأن يتقصدوه تعجيزيًا، مستغلقًا، فاقدًا للروح. كي تكتب عليك أن تفهم. وبما أن الكلمات في جزء كبير منها هي من الغريب والوحشي الذي يصعب فك شفرته من دون العودة إلى القواميس، فلربما أن من بادر وشارك، سيشعر في المرة المقبلة بالنفور والصدود. مع أن الهدف من عيد العربية ليس بث الذعر في قلوب الراغبين في الاقتراب منها، بقدر ما هو بناء التآلف والتناغم بين الناس ولسانهم الذي أصابه الإعجام حد البلبلة وفقدان القدرة على التعبير. فما معنى عبارة «هو واحدٌ لبنان. لمَّا مِن لَمى الصُّبحِ اسمَهُ لمَّ لّمّة، ما وَنى، وعلى حروفِه تَحَانّ!»، وكيف يكون وقعها على المتبارين المساكين حين تتبعها جملة «وهُم ثلاثةَ عشرَ رؤساؤُنا، تبوّأُوا (تبوَّؤوا) الكرسي فاتّأدوا أُحادَ اتِّئادَ حكماءَ، وإلى الحقِّ أووا ونوَوُا الوئامَ لدرءِ الطغوى والإبة». وعلى هذا المنوال المستفزّ تكمل الإملاء...
الشائع أن الفصحى برّية وغير أليفة، لهذا تهجر وتنبذ. تأكيد الفكرة حتى لمن امتلكوا شجاعة الإقبال، يعزز رأي المدبرين عنها والمولّين لها ظهورهم، وتدعمهم بالدليل القاطع.
الأخطاء الإملائية ترتكب حتى بحق الكلمات المتداولة، والهمزات على أنواعها، ثمة من لا يفرق بين الأحرف المتشابهة لفظًا أو كتابة أيضًا. المعضلة شائكة، وتكبير الحجر وجعله صخرة لا تحمل ولا تجرّ، يغري بالإعراض.
تصنيفات أجريت تكرارًا اعتبرت العربية إما الأكثر صعوبة في العالم، أو الثالثة من بين الأصعب، لتعقيدات نحوها وصرفها حتى أنها تتقدم الصينية أحيانًا. كيف تقارن الضاد بالصينية التي يحتاج متعلمها إجادة ألفي رمز ليقرأ جريدة، وعليه أن يصل إلى أربعة آلاف ليصبح قادرًا على قراءة كتاب؟ مقابل 28 حرفًا أبجديًا عربيًا، على الراغب في الصينية أن يحفظ 214 مفتاحًا دلاليًا أساسيًا، ومع ذلك، باتت الصينية من أكثر اللغات نموًا، بفضل استشراس أبنائها في ابتكار السبل وتجديد المناهج، وتوظيف كل مثير وفاتن لجعلها أقرب إلى الألعاب والتسالي المشوقة.
الطرافة تنقصنا، التخفف من التجهم الكامن في كتب الأطفال، في ألوان الرسوم، وبهوت الطباعة، في تحرير الخط، والتخلص من آفة الخطابة والإنشاء والتكرار الممضّ والتعابير الإرشادية السّامة. ما بين المدافعين عن الضاد حد خنقها بالمدائح والصادّين عنها لدرجة التمنّع عن استخدامها، لا تزال واحدة من أهم شركات الإنترنت في لبنان ترسل لمستخدميها إيميلات بالإنجليزية، مع أن بعضهم أميّ بالكاد يتهجى العربية، وجمعية ثقافية مهمة، هدفها الحفاظ على «الإرث»، تتبنى لغة شكسبير لتوجيه بياناتها الصحافية، وهي اللغة التي يتحدث بها أعضاؤها في اجتماعاتهم وصالوناتهم. فلا عتب، إذن، على الشبان الصغار الذين لم يجدوا من يشرح لهم خطورة نبذهم لهويتهم اللسانية. مهرجان للسينما لا يتوانى عن كتابة أسماء الأفلام العربية التي يعرضها بالفرنسية، جمعية تعنى بالفقراء والمعوزين قررت أن تحرر موقعها الإلكتروني بلغة لا يفهمها الذين تتوجه إليهم وتدّعي معونتهم.
كأنما تتحول العربية إلى مجرد عيد خطابي، ينقضي بانتهاء اليوم اليتيم الذي خصص لها، مع أن الحلول لا تحتاج كل هذه المؤتمرات والديباجات الطويلة والشروحات المسهبة. مضت سنوات من التنظير والتشريح وهي تكفي وتزيد. ينفضّ الجمع ويمضي كل إلى سبيله. لا تغيير في المناهج التدريسية التي هي لبّ وأساس، لم يقدم التربويون والأكاديميون، الذين ينظمون الاحتفاليات الرنانة ووصلت إلى أوروبا وهم يتحدثون فيها حد الإنهاك، على جعل القراءة اليومية والكثيفة سبيلاً لإنقاذ طلابهم، والروح النقدية التي تفتح أبواب النقاش مخرجًا. موت العربية نتيجة بديهية لمناهج التلقين والتغييب المطبقة منذ مائة عام، والمستمرة حتمًا ما دام أن الاستسهال منجاة والعادة تقارب العبادة. المدرّسون يفهمون ذلك، الدكاترة الأكارم يعون عمق الأزمة. حتى في الجامعات، يحفظ الطلاب المحاضرات التي توزع عليهم، ويلفظونها مشوهة، مليئة بالأخطاء الإملائية والنحوية على كراريس الامتحانات، وينجحون، ويحصدون الشهادات. يتخرج طالب الأدب العربي وهو لم يقرأ أبي حيان التوحيدي، أو الجاحظ أو حتى أنسي الحاج أو سعيد عقل. لا مبالغة فيما نقول. أعمدة الأدب مغيب عدد كبير منهم. طلاب في الماجستير، لم يسمعوا من قبل باسم توفيق الحكيم، ولم يقع بين أيديهم كتاب لطه حسين أو عباس محمود العقاد. إذا كان هذا حال طلاب العربية، فما وضع من في الفيزياء أو الكيمياء أو الهندسة؟ وكيف لعلمائنا أن يخدموا أمتهم وهم بلا هوية أو انتماء، ودون لسان؟
عشق التنظير مقتلة، الانتقال إلى العمل يحتاج تقشفًا في القول وبلاغة في الفعل. ما دام أن الشعار المتبنى هذه السنة هو «تعزيز انتشار اللغة العربية» فلنسعَ بين أهلها. لنصمت احترامًا للموت الهاجم علينا من ألسننا الثرثارة. لنحدد هدفًا صغيرًا، متواضعًا، ونمضِ. لنقل إن الغاية عام 2017 هي التوقف عن استخدام الأحرف اللاتينية لكتابة العربية. العناوين الفضفاضة لم تعد تجدي، لننظف أجهزتنا كلها من هذا الفتك، لنرفض الرد على رسالة تتبرأ من أبجديتها، لنقل للكاتب لنا إننا لا نفهم ما يدبجه، لنواجه من يفرضون علينا البشاعة عنوة والتشرذم على مدار اليوم. لغتنا لم تعد جميلة كما ندّعي، إنها مريضة، وهذا الطوفان من الهذر المتفاقم، صار بحد ذاته ابتلاء تتوجب مكافحته.