سمير صالحة
اكاديمي ومحلل سياسي تركي
TT

«مرمراي» مشروع العصر

هو حلم قديم جديد بدأ قبل 150 عاما مع السلطان عبد المجيد ثم طوره السلطان عبد الحميد على الورق قبل قرن في مشروع الجسر الأنبوبي لكنه رأى النور في عهد ابن قاسم باشا رجب طيب أردوغان في عام 2013 وهو الذي قال إنه ليس مشروع العصر فقط بل هو مشروع كل العصور.

الكثير من علماء الجيولوجيا قالوا إن آسيا وأوروبا كانتا قطعة واحدة ثم انفصلتا بسبب تغيرات طبيعية، والكثير من المؤرخين رددوا أن التصادم بين الحضارتين الشرقية والغربية أشعل خصومة استمرت إلى يومنا هذا، لكن الحقائق تقول إن حكومة «العدالة والتنمية» في تركيا أطلقت مشرع ربط القارتين الآسيوية والأوروبية بحبال غليظة لا تنقطع تحت مياه مضيق البوسفور وبين جناحين تاريخيين؛ آسيوي هو في أوسكودور وأوروبي هو في سيركجي.

في الوقت الذي كانت المفوضية الأوروبية تستعد فيه لنشر تقريرها السنوي حول مسار العلاقات التركية - الأوروبية وتذكير الأتراك أن حلم العضوية ما زال يحتاج إلى بعض الوقت رغم معرفتها بمرور ستين عاما على الانتظار، كان الأتراك يضعون اللمسات الأخيرة على تدشين إنزال كتلة خرسانية ضخمة غطسوها في قعر المضيق لتكون جسر العبور بين الشرق والغرب.

أردوغان في أغسطس (آب) المنصرم قام بجولة تفقدية وأعطى الضوء الأخضر لافتتاح المشروع في اليوم الذي تحتفل فيه تركيا بذكرى مرور 90 عاما على تأسيس جمهورية أتاتورك الموصوفة بالحديثة وقتها لكنه أراد أن يثبت للأتاتوركيين والعلمانيين أن الإسلاميين هم الذين يحمون ويدافعون عن مصطلح التطور والحداثة أكثر من غيرهم في تركيا عبر مشاريع إنمائية ضخمة من هذا النوع.

ما الذي يعنيه «مرمراي» بالنسبة للأتراك؟ نفق اسطواني بطول 3000 متر بعمق 60 مترا تحت سطح المياه، أنابيب بارتفاع 9 أمتار وعرض 15 مترا، أكثر من مليون شخص سيستفيدون من المشروع يوميا ذهابا وإيابا بين شقي إسطنبول، مشروع خط الحرير الذي يربط لندن ببكين من دون انقطاع وفي حافلة نقل واحدة تنطلق من محطة في «سيركجي» نصل إليها عبر درج متحرك هو الأطول في العالم كما يقول أصحاب المشروع.

4 دقائق ستكون كافية لقطع مسافة كيلومتر ونصف ولربط جانبي مضيق البوسفور والعبور في قطار هو المرحلة الأولى من المشروع الذي بلغت كلفته 5 مليارات دولار وذلك من أجل توفير الوقت والطاقة ومحاولة المساهمة في حل أزمة المواصلات في إسطنبول أكثر المدن ازدحاما.

مشروع تأخر 4 سنوات كاملة ليس لأسباب مالية أو تقنية بل لأنه جرى العثور على كنز تاريخي لا يقدر بثمن في قعر المضيق وهو عبارة عن عشرات السفن التجارية عرفت بحمولتها قبل ألف عام وانتشال أكثر من 40 ألف قطعة أثرية نادرة جمعت كلها في متحف خاص أنشئ لهذه الغاية. تركيا لم تعد تهتم كثيرا بتنظيم احتفالاتها الوطنية والقومية كما هي الحال في الكثير من الدول من خلال استعراض قطعها الحربية ووحداتها العسكرية بل هي تنافس بعدد المشاريع الضخمة التي جرى إنجازها على المستوى الوطني والإقليمي.. مشاريع تقارع إنجازات الدول المتحضرة والمتقدمة في تقديم الخدمات الحياتية والإنمائية.

النقلة المقبلة لحكومة أردوغان هي مع مشروع قناة إسطنبول المائية الذي يراد له أن يكون نواة إسطنبول جديدة، ومطار إسطنبول الثالث الدولي وخطة ربط تركيا بأكملها بشبكة حديثة من القطارات طالما أن الجغرافيا والإمكانات تساعد على تحقيق هذا المطلب.

هذا لا يمنع أن يكون هناك معارضة محدودة جدا للمشروع تحذر من خطورة اختيار المكان في أصعب المضايق وأكثرها حركة تجارية وسياحية إلى جانب كون المشروع يجري في بحر مرمرة المصنف بين أخطر بقع الزلازل في العالم.

شركات تمويل وإنشاء يابانية ساهمت منذ البداية في العمل وتقديم عروض مغرية في حماية البيئة والتقنية الحديثة وضمانة حركة الهجرة السمكية وتنقلاتها في المضيق الأشهر عالميا في هذا المجال كونه يجمع ثلاثة بحار في بقعة جغرافية متلاصقة.

حلم قديم جديد لأهم سلاطين الإمبراطورية العثمانية يحققه أردوغان في تركيا المعولمة مع سلطة سياسية تريد إحياء تاريخ الماضي مستفيدة من قوة الحاضر حتى ولو رفضت أوروبا أن ترى كل ذلك. ولم لا تغضب البعض الدعوات الموجهة للجماهير للمشاركة في احتفالات إطلاق المشروع «أردوغان قائد العصر يدشن مشروع العصر»!

«مرمراي» هو حلم الأتراك بالتنفس تحت الماء.. بالسير تحت الماء من دون أن يغرقوا أو يتبللوا حتى.