مطلوب أن يسعى زعماء الجبهات الفلسطينيون وحركاتهم لتوحيد صفوفهم، بما يحقق الالتقاء على تحقيق ما يخدم مصلحة شعبهم. ضمن هذا السياق، فإن الترحيب باجتهاد قيادة «حركة الجهاد الإسلامي» عبر مبادرتها المعلنة يوم الجمعة الماضي، مطلوب بالتأكيد، مع الاحتفاظ بحق التحفظ على بعض نقاطها، وهو ما يوجب تقبّل تحفظات الآخرين بصدر رحب. في أول بنود اجتهادها، أقدمت قيادة «الجهاد» على إلغاء ست وعشرين سنة من سعي الفلسطينيين العملي لا التنظيري، لإقامة دولة تعترف بها دول العالم، وتتعامل مع مواطنيها على أساس أنهم مواطنون لا مجرد لاجئين. ذلك السعي بدأ بتوقيع اتفاق أوسلو (13 - 9 - 1993) الذي تبدأ مبادرة «الجهاد» بمطلب إلغائه وكل ما ترتب عليه. لمِن وُجه المطلب؟ للرئيس الفلسطيني. قليل من التبصّر كفيل بتسليط بعض الضوء على أول التناقضات. كيف يُطلب من رئيس تسلم سلطته ويمارسها وفق ذلك الاتفاق وبموجب ملاحقه التفصيلية أن يبادر من فوره إلى إلغائه؟ ولئن كانت أولى نقاط المبادرة مستعصية التحقيق، فإن ما تلاها بدا أقرب إلى الاستحالة منه إلى إمكانية التطبيق. أكثر من هذا، تجاهل اجتهاد قيادة «الجهاد» الناس، فلم تتضمن مبادرتها نقطة واحدة تشير إلى استفتاء الفلسطينيين في موضوع يتعلق بحاضرهم ويخص مستقبلهم. تُرى، ألم تسمع «حركة الجهاد الإسلامي» بما مرت به بريطانيا، مثلاً، من صراع آراء قبل استفتاء عضوية الاتحاد الأوروبي.. وبعده؟
في سياق ردود الفعل، لفتني تعقيب لأحد قياديي «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» خلاصته أن «الجبهة تدعم المبادرة سعيًا لإعادة بناء الوحدة الفلسطينية من جديد على أساس القطع مع اتفاقات أوسلو، والانطلاق من أن المرحلة هي مرحلة تحرر وطني وديمقراطي لا بد من الاتفاق على برنامجها». ذكرني كلام المسؤول الجبهوي، كيف أن فصائل اليسار الفلسطيني، بل العربي عمومًا، تميزت دائمًا ببراعة التنظير السياسي. وأستطيع، على المستوى الذاتي، القول إنني استفدت كثيرًا من دروس حركة القوميين العرب (الجبهة نشأت في أحضانها) وبرامج التثقيف الفكري لأعضائها، إذ في جلسات حلقاتها بمخيم الشاطئ قرأت منذ سنوات مراهقتي بقطاع غزة لكارل ماركس وآدم سميث، وتعلمت كيف أحاجج ضد أفكار الاثنين (حصل هذا قبل استدارة القوميين الفلسطينيين نحو الماركسية)، لكن كم هو البون شاسع بين كلام يعجب السامعين، وبين واقع ليس يعاني سوءاته سوى المكويين بناره.
هل من مثال؟ نعم. بعد يومين من مبادرة المطالبة برمي اتفاق أوسلو بأقرب سلة مهملات، أطلق شباب غزاويون هاشتاغ (غزة_إعمار_لم_يكتمل) للمطالبة بتسريع إعادة الإعمار قبل أن يحل الشتاء. على موقع «نوى» الشبابي، قرأت تقريرًا عن الموضوع ذاته، هنا فقرة منه: (عامان وما زالت المواطنة افتتاح أبو عمشة، من بيت حانون، تعاني داخل الكرفان الذي تسكنه وعائلتها المكوّنة من 10 أفراد، بسبب تعثّر عملية إعادة إعمار المنازل التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة عام 2014.
تقول أبو عمشة: «البلدية تهددنا بالطرد من الكرفان لأنهم يريدون بناء ملعب مكان الكرفانات، يريدون أن يتعاملوا معنا كحالة إنسانية، ونحن لسنا حالة إنسانية، بل من حقنا أن نسكن كما يسكن كل الناس»).
في فيلم «The Secret Life of Walter Mitty» يعاني وولتر Ben Stiller المسؤول عن أرشيف مجلة «لايف» من نوبات أحلام يقظة (DAYDRAEAMING) إذ تصوّر أنه أضاع «نيجاتيف» صورة طُلبت منه، وقد انطلق من نيويورك إلى صقيع آيسلندا ثم ثلوج جبال أفغانستان بحثًا عن المصور، الذي كان أرسل له حافظة نقود هدية بعدما اعتزل، وإذ عثر عليه، فوجئ أن «نيجاتيف» الصورة، الذي يبحث عنه، موجود في محفظة الجيب التي تركها وراءه. ربما يكون حلم اليقظة جميلاً على المستوى الشخصي، لكنه يبقى خطيرًا كذلك. أما فيما يخص مستقبل شعوب بأكملها، فالأمر يتجاوز مجرد الخطر، عندما يقامر حالم اليقظة المسؤول بمصائر الناس، فيدفعهم، ولو بإشراكهم معه في حلم يقظته، إلى مجهول ليس له قرار. ليس القصد هنا القول إن مبادرة «الجهاد» أشبه بحلم يقظة. كلا، بل لقيادة الحركة حق الاحتفاظ بأنها اجتهدت، وهو أمر يستحق التقدير، إنما في الآن نفسه، يظل لغيرها الحق في الأمل بوفاق فلسطيني يقوم على وضع المصلحة الفلسطينية قبل مطالب أي طرف آخر، هذا في حد ذاته يتطلب العمل على إرساء أسس بناء أفضل استنادًا لاتفاق أوسلو، بدل المطالبة بإلغاء ما تحقق. أما قال الأولون، منذ زمن بعيد، ما أسهل الهدم وما أصعب البناء؟
7:52 دقيقه
TT
اجتهاد «حركة الجهاد»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة