إنه لشيء مهم أن نرى مدينة الموصل، ثاني أهم وأكبر مدن العراق وقد تركها تنظيم داعش، وهذا بحد ذاته سيخلق فرصًا كثيرة لمستقبل المدينة وأهلها.
ولقد حركت مدينة الموصل إبان احتلالها من «داعش» في 9 يونيو (حزيران) 2014، ثم قُبيل موعد تحريرها الذي لم يعلن سوى أنه بات قريبًا، حركت كل شيء تقريبًا في العراق، ومما حركته مصادر القوة والسياسة والسلاح والاقتصاد والعشائر والحدود، وأشياء أخرى مثل التحالف الدولي والتدخل الخارجي الطاغي على المشهد كله، ثم ومع تقدم الأيام، واقتراب الحسم، تزداد الفرص بلا شك.
صحيح أن الفرص مغلفة بثوب التحديات الرهيبة، لكن العمل الصحيح، يجعل من هذه الفرص ممكنة، أو على أقل تقدير يمكن أن تكون مصدرًا مهمًّا للعمل، ويمكن إجمال ذلك المعنى في خمس فرص مقبلة لا بد من العمل عليها، وتجاوز تحدياتها.
الفرصة الأولى: أهم فرصة على الإطلاق، هي تلك المتعلقة بالسكان المحليين، معظمهم تحت قبضة «داعش» الآن، وآخرون في الشتات أو المخيمات. إن الإبقاء على أهل الموصل في المدينة هو فرصة وضرورة، لأنهم إن هاجروا عنها فتحنا على أنفسنا بابًا رهيبًا للنزوح، فلا بد من دعم عودة سكان المخيمات والنازحين إلى المدينة، لأنها فرصة وجودية بمقابل تحدي التغيير الديموغرافي الخطير. سنرى لأول مرة منذ أكثر من سنتين، وكما هو متوقع، «الموصل بلا (داعش)»، لذلك لدينا كثير من العمل، هناك ثاني أكبر جامعة في العراق، تنتظر إعادة التأهيل، وعودة عشرات الآلاف من الطلاب إلى مقاعدهم الدراسية، هذا لن يكون من غير خروج «داعش» وعودة الأهالي، هنالك بِنية ثقافية ومدنية يمكن الاعتماد عليها في رسم الصورة الكلية للعراق، هناك أشياء كثيرة ستعود لمكانها وتسهم في حركة الحياة، لكن هذه الفرصة سيحدد شكلها مشهد الحرب. والقرار الصحيح في الإبقاء على السكان المحليين وحمايتهم من الخطر القائم والمتوقع.
الفرصة الثانية: مشاركة أهالي مدينة الموصل ونينوى بكل تنوعاتهم وأطيافهم، بتشكيل قوة مسلحة رسمية تحمي مدينتهم، بدل أن يعتمدوا مستقبلاً على قوات كانت مصدرًا للإهانة والاعتقالات والتجاوزات قبل دخول «داعش» المدينة، كما كانت لاحقًا مصدرًا للانتهاكات والتجاوز على حقوق الإنسان والممتلكات العامة والخاصة وتعذيب المعتقلين والاختفاء القسري للمخطوفين، مثلما حصل في مناطق دخلها الحشد الشعبي في محافظتي الأنبار وصلاح الدين.
لكن كيف يمكن استغلال هذه الفرصة؟ ربما سيساعد الأميركيون على إنتاج تلك القوة، فمنذ عام وهم يدعمون جهدًا في هذا الاتجاه، يريدون أن تمسك تلك القوة المحلية الأرض ريثما تنتهي الحرب، كان الأميركيون يدربون قوات مختارة من أهل نينوى ومن جميع مكوناتها. ورغم عدم فهم الطريقة التي ستشترك بها تلك القوات، فإن دخول القوة المحلية في غاية الأهمية للمدينة والسكان.
هذه الفرصة تخلق تحديًا آخر، فلطالما لم تسمح الحكومة في بغداد بتشكيل قوة ذاتية من أهل الموصل، وكانت كل الطلبات السابقة تُردّ وتُرفض بدعاوى شتى، بل حتى القوة المحلية التي شكَّلها المحافظ السابق أثيل النجيفي، لم تحظَ بعد بموافقة حكومية، وهي من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى إبعاده عن منصبه كمحافظ، على الرغم من أنها أصبحت واقع حال، وتنتظر دورًا غير محدد في المعركة المقبلة. لذلك فإن التحدي سيعتمد بالدرجة الأساس، على موافقة الحكومة على إعطاء هذه القوة المحلية بعدًا رسميًّا، والسماح لها بعد ضغط أميركي في إمساك الملف الأمني في المدينة.
الفرصة الثالثة: هي فرصة اقتصادية كبيرة، فمحافظة نينوى ذات التعداد السكاني الكبير، في حدود ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف نسمة، وذات الموارد المهمة من النفط والزراعة، وفيها مطار الموصل الدولي، وسد الموصل أكبر سدود العراق، وغيرها، يمكن لها أن تبدأ مشروعها الاقتصادي الكبير، معتمدة على قربها من الإقليم الكردي وكذلك المصالح الإقليمية فيها، وعلى عدد كبير من السكان وطبقة من العاملين والمثقفين، الذين يتوقون لإطلاق مشاريعهم الاقتصادية المتوسطة والصغيرة في المدينة المهمة. لكن التحدي أمام هذه النقلة الاقتصادية للمدينة، يأتي من عدم وجود التشريعات الحكومية اللازمة، لإبرام محافظة نينوى عقودها الذاتية من حكومتها المحلية، فالمقبل ستكون فيه عقود النفط وشبكات الاتصالات وتشغيل المطار، وبمراجعة الدستور العراقي والتشريعات الجديدة، فإن صلاحيات المدينة والمحافظة بشكل عام، ستزداد في حال انتقالها إلى إقليم، وفقًا للدستور العراقي الذي يمنح هذا الحق للمحافظات، ورغم أن الدستور يشترط موافقة غالبية السكان المحليين للمحافظة على هذا الانتقال باستفتاء شعبي، ورغم أن هذه الغالبية متحققة وأكثر، بحسب المسؤولين، ووفقًا للانطباع العام، فإن السوابق السياسية تؤكد أن الحكومة ستعمل جاهدة على منع تحول محافظة نينوى لإقليم بأي شكل من الأشكال، رغم أهداف الإقليم الاقتصادية الواضحة، لكن ذلك لا يبدو في صالح الحكم في بغداد حاليًا، لأسباب ذات طبيعة سياسية في المقام الأول.
الفرصة الرابعة: تطبيع العلاقة وإيجاد فرصة نوعية نادرة لحل تاريخي بين العرب والكرد، كاتفاق استراتيجي بعيد الأمد، يدمج طاقات وإمكانات المنطقتين، من النواحي الاقتصادية والأمنية بالمقام الأول، ويحظى بدعم دولي، ويمهد لحل الصراع على المناطق المتنازع عليها، لا سيما إذا كان هذا الحل يأخذ طابعًا اقتصاديًّا من خلال تقاسم الثروة النفطية والزراعية في مناطق النزاع، وتأجيل المشكلات السياسية العالقة لحين الاستقرار التام، ووجود نضج سياسي بين الأطراف للحل، بمعنى ترحيل المشكلات إلى الأمام، حتى الاستقرار والفائدة الاقتصادية، واستقرار السكان.
إن التحدي أمام هذا الحل يكمن في جانبين أساسيين، أولهما الخلافات التي تصاعدت بين الكرد أنفسهم، في السليمانية وأربيل، أما الجانب الثاني فهو اضطراب أهالي نينوى من العرب بالخصوص، واستنزافهم في الحرب والنزوح والسيطرة على مناطقهم من قبل «داعش»، ولعل خروج «داعش» من الموصل سيمهد لهذا النوع من الفرص، والعلاقة التاريخية بين تلك الأطراف.
الفرصة الخامسة: أن مدينة الموصل ستُظهر وجهها الثقافي والحضاري باعتبارها أصبحت مدينة ذات بعد عالمي، ويمكنها أن تعيد تأهيل نفسها وفق تاريخها، وهذا بحد ذاته سيمثل انتصارًا معنويًّا وفكريًّا مهمًّا على «داعش»، ويعيد إنتاج مدينة الموصل كمجتمع مدني له ثقافته الخاصة وطابعه، في الشكل والملبس والموسيقى واللهجة، وحتى العمارة.
لكن التحدي أمام الظهور الجديد، والوجه الجيد الناصع للمدينة، هو القدرة على معالجة العلائق التي رسخها «داعش» بمظهر المدينة العام، وفي عدة جوانب، وأدت إلى إحباط واسع وسمعة غير محمودة يسوق لها أعداء المدينة العريقة، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للتاريخ المرئي والتراث، ومع ذلك فالفرصة مقبلة ويلزمها كثير من العمل.
ومع هذه الفرص الخمس، لا بد من عمل كثير جدًّا، وانفتاح على المستقبل، فلم تعش الموصل مثل حالتها الحالية منذ حصار نادر شاه عليها عام 1743، وهي اليوم أمام فرصة تاريخية وتحديات كبيرة، يتحتم على أهلها، وعلى المجتمع العراقي بالعموم، ثم المجتمع الدولي الأخذ بيدها بدل معاداتها وتهميشها سياسيًّا وأمنيًّا، كما كان منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
* كاتب عراقي