عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

ماذا يعني تقرير تشيلكوت للعراقيين والمنطقة؟

لو كان لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير أن يختار موعداً لصدور تقرير لجنة التحقيق البريطانية في ظروف وملابسات ودروس قرار غزو العراق، لما وجد توقيتاً أفضل من يوم أمس. فبريطانيا الآن غارقة في همومها ومشاكلها وخلافاتها الناجمة عن نتيجة الاستفتاء بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والتطورات السياسية والاقتصادية المترتبة على تلك الورطة. وسائل الإعلام مشغولة ومشتتة بين متابعة التطورات الاقتصادية السلبية، وبين صراعات حزب المحافظين وانتخاباته لاختيار زعيم جديد يشغل منصب رئيس الوزراء خلفاً لديفيد كاميرون، وملاحقة تطورات الخلافات داخل حزب العمال والتحركات لإطاحة زعيمه جيريمي كوربين.
على الصعيد العربي فإن صدور التقرير تزامن مع أول أيام عيد الفطر والناس في عطلة تشغلهم عن المتابعة العادية للأخبار. في كل الأحوال فإن المنطقة أصلاً لا تعول كثيراً على نتائج التقرير البريطاني الذي لن يغير شيئاً في واقع وتداعيات حرب مضى عليها 13 عاماً تركت جراحاً لا تندمل، وغذت صراعات لم تتوقف، وأسهمت في ظهور «داعش» ودولتها الإسلامية المزعومة.
تقرير لجنة التحقيق المعروفة أيضا باسم لجنة تشيلكوت على اسم رئيسها سير جون تشيلكوت، كان واضحًا في انتقاداته لطريقة اتخاذ قرار الحرب، وقال إنه اتخذ بناء على معلومات وتقديرات استخباراتية فيها أخطاء وكان يجب تمحيصها وإثارة أسئلة حولها. كما أنه انتقد الطريقة التي عرضت بها حكومة بلير تلك المعلومات لكسب التأييد لموقفها وتبرير المشاركة في الحرب، وقال إن تصوير مخاطر أسلحة الدمار الشامل في العراق الذي قدمته الحكومة بالتأكيد لم يكن أمراً مبرراً.
الأهم من ذلك أن التقرير اعتبر أن الحرب في ذلك الوقت «لم تكن ضرورية»، وقال إن الحكومة البريطانية اشتركت في الحرب قبل أن تستنفد كل الوسائل السلمية الأخرى، وبالتالي فإن «الغزو لم يكن الخيار الأخير».
ولأن التقرير حصل على إذن بنشر وثائق عن مكاتبات واتصالات هاتفية بين بلير والرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، فإنه أكد ما كان متداولاً عن أن بلير وعد بوش بأنه سيقف معه أياً يكن الأمر، وذلك قبل ثمانية أشهر من شن الحرب.
قراءة وتحليل نتائج التقرير الواقع في 12 مجلداً تحتوي على مليونين وستمائة ألف كلمة سوف تستغرق أياماً، لذلك فإن ردود الفعل الصادرة أمس كانت مجرد مواقف تمهيدية اعتمدت على قراءة الخلاصة التي جاءت بدورها في 150 صفحة. وسيجد نواب البرلمان البريطاني فرصتهم لمناقشة التقرير في جلستين تعقدان على مدى يومين الأسبوع المقبل، وفق ما أعلنه رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أمس، الذي ذكرهم بأن كل من أيد منهم قرار دخول الحرب عليه أن يتحمل قسطاً من المسؤولية.
لكن ما هي المسؤولية التي سيتحملها النواب أو بلير؟
تقرير لجنة تشيلكوت وصف منذ البداية بأنه لن يوجه إدانات «قضائية»، وإنما سيكون دوره توجيه انتقادات حيثما يتطلب الأمر، والإشارة إلى أي أخطاء ارتكبت، وتحديد الدروس التي يراها للاستفادة منها في أي قرار قد تتخذه حكومة مستقبلية للمشاركة في أي حرب. من هذا المنطلق فإن التقرير قد يشكل مجرد «محاكمة معنوية»، ويفتح الباب أمام محاسبة إعلامية، لكنه لا يحمل أي توصيات لمحاكمات أو إجراءات قضائية ضد أي شخص. صحيح أن بعض الجهات أو أفرادا من عائلات أسر الجنود البريطانيين الذين قتلوا في الحرب قد يفكرون في توظيف بعض ما ورد في ثنايا التقرير لبحث إمكانية ملاحقة بلير قانونيا، إلا أن مثل هذه الخطوة ستواجهها عقبات بالتأكيد. فلو كانت هناك فرصة حقيقية لمثل هذه المحاكمة لكانت قد حدثت منذ زمن، خصوصاً أن تقرير لجنة تشيلكوت، وإن كان الأشمل والأكبر، فإنه ليس الأول عن هذه الحرب، إذ سبقته أربعة تقارير أخرى، كما أن هناك مئات الوثائق والبيانات المنشورة، وعدداً من الكتب والمذكرات، وكماً هائلاً من المعلومات التي باتت معروفة منذ فترة طويلة.
بلير سارع أمس وكما كان متوقعاً للرد على الانتقادات التي وردت في التقرير قائلاً إن قراره بالمشاركة في الحرب «اتخذ بنية خالصة وبناء على ما كان مقتنعاً بأنه في مصلحة بلاده». وتمسك بأن التقرير «يجب أن ينهي أي كلام عن أنه كان هناك تزوير أو إساءة استخدام في المعلومات الاستخباراتية، أو تضليل للحكومة، أو التزام سري مسبق قدم لجورج بوش بالمشاركة في الحرب».
التقرير بالتأكيد لن ينهي الكلام والجدل، أو يوقف الانتقادات بشأن تداعيات تلك الحرب الماثلة أمام الأعين اليوم. لكن تأثيره سيبقى محدودا، خصوصا في هذا التوقيت، وبعد مرور كل هذه السنوات. وهو على ضخامته سيبقى مجرد وثيقة أخرى تضاف إلى الكثير مما هو منشور عن تلك الحرب، الذي طوى النسيان والتطورات بعضه. كما أنه لن يغير شيئا بالنسبة للعراقيين أو للمنطقة المكتوية بنيران حروبها وحروب الآخرين.