إميل أمين
كاتب مصري
TT

من واشنطن إلى باريس.. آفاق واعدة

تأتي زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الفرنسية باريس لترسم نهجا جديدا، وتفتح آفاقا واعدة للعمل السياسي والدبلوماسي للمملكة العربية السعودية في قادمات الأيام.
تجيء الزيارة المهمة عقب جولة ناجحة في الولايات المتحدة الأميركية على الأصعدة كافة، وبما يتلاءم مع الفكر الجديد والدماء المتجددة التي تضخ في شرايين المملكة، في انتباهة عصرانية لتغيرات العالم الجيوبوليتيكية، وللوعي للمخاطر المحدقة من حولها.
على أن ما يكسب هذه الزيارة ثقلا خاصا وأهمية متزايدة، أنها تتم في أوقات مثيرة بالنسبة إلى القارة الأوروبية، حيث تشكل فرنسا الآن عقل أوروبا السياسي الواعي، في وقت تضرب فيه موجات الانسحاب وتعلو دعوات التفكك دول كثيرة في الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من أن أوروبا تبدو في خطر اليوم، فإن المخاطر دائما ما تحمل الفرص، شريطة أن يتم التعاطي معها بحذاقة سياسية وبرؤى استشرافية، وهو ما تفعله الدبلوماسية السعودية في حاضرات أيامنا.
ففلسفة الدبلوماسية السعودية تقوم على منهجية «ضبط المسافات»، لا على الاستغلال «عبر المتناقضات»، ما يكفل لها في الواقع احتراما وتقديرا مضطردا، في عالم مليء بالاضطرابات شاغر بالتحولات ومن دون بوصلة.
تأتي الزيارة في إطار أوقات حساسة وفاصلة لفرنسا، إذ تقترب من أن تكون رأس الرمح الأوروبي شرق أوسطيا، وتزداد أهميتها بعد الانسحاب البريطاني من الجماعة الأوروبية، ويتضح ذلك من تصريحات الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي أصر على عدم تنكيس راية الاتحاد رغم خروج بريطانيا منه، وبالتالي تكتسب الدبلوماسية السعودية مقدرة متميزة في المستقبل القريب على التعاطي مع بقية دول أوروبا بفاعلية قصوى، وبدعم وتعضيد فرنسي، وفي هذا مكسب وفير لسياسات المملكة خارجيا.
ولعل الناظر إلى زيارة ولي ولي العهد لفرنسا، يدرك أن هناك وعيا متناميا للدور الذي يمكن لفرنسا أن تلعبه بإيجابية وبالشراكة مع العالم العربي، سيما أنه لم يعد يخفى على أحد أن المنطقة لم تعد اهتماما أميركيا مطلقا، وعليه فالفرنسيون مرشحون وبجدارة لملء قطاع معتبر من «فراغات القوة» الأميركية، وخير دليل على ذلك أنها الطرف الدولي الوحيد حتى الساعة الذي يغامر بالدخول إلى لجة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وفرنسا الدولة الوحيدة حول العالم التي تقدم طرحا أمميا يسعى إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وبعد أن أثبتت السنوات الثماني لباراك أوباما عدم جدية أي دور أميركي فاعل وناجز تجاه حل الدولتين.
في هذا السياق تحديدا لا تكتسب زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى فرنسا بعدا براغماتيا سعوديا - على إيجابيته وعدالته - فقط، بل تكتسي أيضا ثوبا عروبيا، فالمملكة منذ العام 2002. هي صاحبة المبادرة العربية لإنهاء النزاع الذي طال، ولهذا فإن فالتعاون الفرنسي - السعودي يعطي مسربا من مسارب الأمل التي تضيق يوما تلو الآخر بالنسبة إلى هذا الصراع.
لا تنعكس إيجابيات الزيارة على المملكة فقط، ففرنسا لها مصالح استراتيجية، سياسية واقتصادية في الشرق الأوسط عامة وفي الخليج العربي خاصة، ولهذا تبقى راغبة أبدأ ودوما في تفهم أبعاد المقاربات السعودية لأزمات ومشكلات الشرق الأوسط، والعمل عن قرب لبلورة رؤى واقعية وإيجاد حلول عملية، وحقول التعاون كثيرة بدءا من سوريا مرورا باليمن، ووصولا إلى التهديدات الإيرانية التي ترفضها فرنسا، وإن قبلت الاتفاقية النووية معها على مضض، وتحت ضغوطات أميركية أوبامية ولا شك.
تعزز الزيارة ولا شك من آفاق التعاون الاقتصادي ذي الطابع الابتكاري، الذي يقود تياره ولي ولي العهد، وفرنسا اليوم التي تمثل المستثمر الثالث في المملكة اقتصاديا باستثمارات تجتاز الـ15 مليار دولار، مرشحة في ظل الخطة التنموية السعودية الجديدة، لأن تكون شريكا رئيسا بما يفوق الرقم المتقدم بمراحل، لا سيما في ضوء خبراتها المختصة بمحطات الطاقة النووية، ما يعني إمكانية الحفاظ على النفط الذي لا يعوض كرصيد للأجيال السعودية القادمة، عطفا على كونها مدخلا اقتصاديا متميز للغاية لعموم أوروبا.
هناك جانب فكري خلاق في الزيارة، ففرنسا التي ضربها الإرهاب بضراوة العامين الأخيرين، في حاجة إلى نموذج عربي ومسلم صادق في وعوده وعهوده.. تقدمي في طروحاته.. مستنير في آرائه.. رافض للتعصب والتمذهب الشقاقي، وساعيا إلى فرص التلاقي، ولهذا فإن الحضور السعودي الإيجابي اليوم في الداخل الفرنسي، يضمن بشكل أو بآخر تغيير بعض من جوانب الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين، ويعزز مواقف فرنسا رئيسا وحكومة وشعبا وخاصة المعتدلين منهم، في مواجهة النزعات اليمينية الراديكالية، والدعوات المتصاعدة لإجراء استفتاء مماثل لما جرى في بريطانيا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وفي كل الأحوال تحمل الزيارة معالم لمرحلة جديدة من التعاون العربي - الأوروبي، والفرنسي السعودي، بعد أن اكتشفت كل الأطراف أن التعايش والتآخي، هو السبيل الوحيد لمواجهة رايات الكراهية ودعوات الموت وصراع الفتن، والحديث ممتد والاستحقاقات الإيجابية للزيارة ما بين الرياض وباريس ماضية قدما.