د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

عجائب الحيرة الأميركية

عمليا، انتهت الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري الأميركي بانسحاب تيد كروز وجون كيسيك المنافسين لدونالد ترامب. هكذا حصل الأخير على ترشيح الحزب عمليًا، وبقي أن نرى ما سيحدث من منافسة على الأرجح، كما بيّنا من قبل، مع هيلاري كلينتون عن الديمقراطيين. وهكذا لا توجد مفاجأة هنا في هذا المقال عما سبق نشره، ومن المؤكد أننا سنعود للمرشحين مرات فيما بعد، ولكن ما يهمنا اليوم أن أيًا من كان فائزًا في الانتخابات الرئاسية، فإنه يتأثر بالأفكار الذائعة من مراكز الأبحاث الأميركية عن منطقتنا، والتي يمكن تلخيصها في الآتي: أولها أن الشرق الأوسط ربما لم تعد له أهمية بالنسبة للسياسة الأميركية، خاصة بعد انخفاض أسعار النفط، و«وضع إسرائيل»، وتراجع أهمية قناة السويس مع تصاعد دور بدائل أخرى للتجارة العالمية. وثالثهما أنه على الولايات المتحدة أن تراجع سياستها في المنطقة ككل.
فكرة المراجعة ليست جديدة، فقد سبقتها دعوة إلى ذلك مع فشل إدارة أوباما في مسعى السلام العربي الإسرائيلي في ولايته الأولى، وبدء عمليات الانسحاب من العراق ومن بعدها أفغانستان؛ مما استدعى ما قيل ساعتها إن على الولايات المتحدة أن تركز وتعطي الأولوية لمصالحها الآسيوية. ولكن الجولة الجديدة للمراجعة جرى تكثيفها مؤخرًا عندما نشرت الباحثة الأميركية تمارا ويتس مديرة مركز سياسة الشرق الأوسط في مؤسسة بروكينغز مقالاً في 4 أبريل (نيسان) الماضي بعنوان «الولايات المتحدة لا تستطيع أن تنقذ مصر من نفسها» دعت فيه واشنطن إلى فك تحالفها مع مصر، والتخلي عن كرمها إزاء دولة لم تعد تستمع إلى ما تطلبه أميركا من إصلاحات وتعديلات على الساحة المصرية. المقال فيه الكثير من التفاصيل التي تحتاج إلى تعليق منفصل، ولكن اللافت للنظر أن المقال ليس جهدًا بحثيًا أو رأيًا فرديًا، وإنما هو جزء من جهد «سياسي» تقوم به «مجموعة العمل عن مصر The Working Group on Egypt» التي أرسلت خطابا إلى الرئيس أوباما تطلب منه صراحة، إما أن تستجيب مصر لمطالب المجموعة، أو تقطع عنها كل أنواع المساعدات.
الحقيقة التي لا يبدو أن أحدًا يعرفها في واشنطن، أنه لم يحدث أبدًا أن كانت هناك معاهدة تحالف بين مصر والولايات المتحدة ترتب التزامات واضحة للطرفين؛ وما كان سائدًا هو تعبير «الشراكة» التي دارت حول موضوعات محددة تتعلق بعملية السلام العربية الإسرائيلية، والاستقرار في الشرق الأوسط، ومقاومة التمدد الشيوعي في المنطقة إبان الحرب الباردة، التي لعبت السعودية ومصر أدوارًا رئيسية لم يجر تقديرها بما تستحقه من قبل النخبة الأميركية. لم يكن هناك في أي لحظة من لحظات العلاقة ما يعطي الولايات المتحدة، وبالتأكيد مجموعة العمل عن مصر، الحق في هندسة الأوضاع السياسية والاجتماعية المصرية، ومن بينها إعطاء أوضاع خاصة لنحو 25 جمعية أهلية من بين 46 ألف جمعية توجد في مصر. ووفق أي نظرة موضوعية، فإن ما قدمته الولايات المتحدة لمصر من مساعدات كانت في مقابل تحقيق مصالح مشتركة استفادت منها الولايات المتحدة. وفي كل الأحوال، فإن ما أعطته أميركا لم يكن سوى نسبة ضئيلة من موارد النقد الأجنبي التي كانت تتحصل عليها مصر، سواء من مواردها الخاصة أو من أشقائها العرب. الطريف أن المقال يلوم مصر، لأن قيادتها ترفض بشدة الاستفادة من التجربة الأميركية في حرب العصابات، رغم أن سجل هذه التجربة في العراق وأفغانستان ومؤخرًا سوريا، رغم كل الإمكانات التكنولوجية المتاحة لها، ليس مما يشجع على التبني. والأكثر طرافة، أن المقال والخطاب الموجه إلى أوباما لا يحمّل الولايات المتحدة مسؤولية من أي نوع عن حالة الشرق الأوسط الحالية، نتيجة قرار الغزو العسكري للعراق، الذي حذرت مصر منه بشدة، وقام على أسباب اخترعتها مجموعة المحافظين الجدد في أميركا، وكانت نتائجه في النهاية كارثية.
لم يكن لما فعلته أميركا في المنطقة تأثير يذكر، فلا هي هزمت في العراق، ولا هي تركت فراغًا سياسيًا وعسكريًا ملأته إيران، ولا هي أقامت نظامًا سياسيًا فوضويًا يقوم على التمييز السياسي والعرقي، وليس له علاقة لا بالديمقراطية، ولا حقوق الإنسان من قريب أو بعيد، ولا هي فتحت الباب لقيام «داعش» وتمدده من العراق إلى سوريا، ولا هي فتحت الباب للحلف الإيراني مع «حزب الله» مع روسيا لكي يضع خطوات تدمير الدولة السورية بالتعاون مع بشار الأسد في النهاية.
الحيرة الأميركية فيما يخص الشرق الأوسط لن يحلها إلقاء اللوم، ولن يفيدها الإنكار أو التجاهل للمسؤولية الأميركية عما جرى في المنطقة خلال العقدين الماضيين. ويصبح من قبيل التجاهل الأعمى الادعاء أن دولة عظمى مثل الولايات المتحدة يمكنها التصرف إزاء دول أخرى في المنطقة دون استناد إلى المصالح الأميركية الصرفة والنقية. الحدس هنا هو أن هناك قلقًا أميركيًا يبدأ من الدوائر البحثية، ويتسلل إلى الأحزاب ومن بعدهما الكونغرس يخشى من الجهد الراهن لبناء تحالف عربي فاعل، تلعب فيه السعودية ومصر أدوارًا رئيسية. وهو تحالف يستخدم أدوات القوة الاقتصادية والعسكرية مع مسارات إصلاحية تعيد بناء الدول والمجتمعات على أسس تنبع من المنطقة نفسها ووفقًا لاختياراتها الذاتية. وأختم بالظن أنه ربما يكون واجبًا وضوح ذلك في واشنطن بأدوات علمية وبحثية، سياسية ودبلوماسية؛ لأن عملية تشكيل عقل الإدارة المقبلة يجري من الآن وبجهود جماعات لعبت دورًا في تشكيل سياسات أميركية في المنطقة كانت لها نتائج وخيمة.