توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

الخلاص من ثقافة الانتحار

مقالة الصديق الدكتور عبد السلام الوايل عن أنماط الانتحار (الحياة 27-3) واحدة من المقاربات الجادة التي تحاول وصف هذا السلوك بلغة علمية محايدة. ونعلم أن الوصف الصحيح لأي سلوك أو ظاهرة، مدخل ضروري لفهم حقيقتها ومن ثم دوافعها. د. الوايل عالم اجتماع جاد ومتفاعل مع ما يجري في المحيط من تحولات.
تبعا لعالم الاجتماع الفرنسي المعروف إميل دوركايم، صنف الوايل أنماط الانتحار إلى ثلاثة: إيثاري، أناني، ولا معياري. وهو يميل إلى الاعتقاد بأن انتحاريي المجتمعات التقليدية أقرب إلى الصنف الأول، فهم يمتازون برؤية عقائدية صلدة تحركهم للفداء، بخلاف الانتحاريين القادمين من مجتمعات أوروبية، فهؤلاء أقرب إلى الصنف الثالث، الذي يجسد حالة ضياع بين نظامين قيمين متنافرين: نظام ديني موروث، لكنه غير فاعل في الحياة اليومية، ونظام علماني يضطره للتعايش معه والتعامل مع الزاماته.
اتفق مع د. الوايل بأن انتحاريي المجتمعات العربية أقرب إلى الصنف الأول «الإيثاري». ويهمني هنا الإشارة إلى سيرورة تحول الموروث الثقافي، الديني خاصة، إلى محرك للانتحار، والدور الذي يمكن أن يلعبه التعليم العام في تعزيز التوازن الروحي، بما يحول دون انقلاب فضيلة الإيثار والفداء إلى محرك لقتل النفس وقتل الغير.
أظن أن فكرة التنافر بين العالم الديني والعالم المادي الواقعي تشكل مفتاحا مهما لفهم تلك السيرورة، وهي على وجه الدقة الموضع الذي يمكن لمؤسسات التعليم والتثقيف العام أن تلعب فيه دورها الرئيس.
سوف أستعير من الشيخ يوسف القرضاوي عبارة «فقه المحنة» التي تصف تلك التحليلات، التي تحاول تجلية الإيمان من خلال تعزيز الارتياب في العالم. تظهر تمثلات هذا الخطاب في المراوحة بين تعظيم الماضي وتأثيم الحاضر، وتنصرف إلى جانبين، هما المبالغة في جلد الذات والتأكيد على قصورها، واتهام الآخر الحضاري، سيما الغرب، بالعدوان والتآمر والتكبر الخ.
هذا التمثلات ليست أكاذيب مخترعة من دون أصل، بل هي تضخيم للوقائع ومبالغة في وصفها، حتى تظهر كصورة وحيدة عن الذات (الآثمة) والعالم (المعتدي). تعميم هذه الصورة ينتهي – طبيعيا – إلى الاستهانة بالعالم وما فيه، بل وبالبشر الآثمين، واعتبار التضحية بالنفس فداء للنموذج المتخيل أرفع الفضائل «والجود بالنفس أقصى غاية الجود».
تبدو هذه التصورات بديهية عند عامة الناس ومثقفيهم. وهي تظهر بوضوح في التبادلات اللفظية العادية وفي الصحافة. وصم العامة بقلة الوعي والميل للتفلت، والكلام المكرر عن الفارق بين حقيقة الدين وواقع المسلمين، والتمثيل الانتقائي بقصص الأسلاف، والتصوير المضخم لظلم الآخرين – سيما الغرب – للمسلمين، تعبر جميعا عن تلك الثنائية الراسخة في الأذهان والقلوب.
الخلاص من التنافر الداخلي يتوقف على استبدال هذه الثقافة الانفعالية بأخرى، تؤكد على الحركة التصاعدية (السننية) للتاريخ، والتعدد الحضاري وشراكة البشر جميعا في المسؤولية عن مصير الكون.
لن يكون الإسلام أقوى إذا نُشر الرعب في العالم. نحتاج إلى تصحيح المفهوم القائل بأن علو الحق يعني استعلاء المسلمين وهزيمة البشر الآخرين. فهو يؤسس بالضرورة لمفهوم تنافري يبرر العدوان. كما يوسع الهوة بين العقل والواقع. علو الحق يتحقق إذا استجاب البشر جميعا لأمر الله في عمارة الكون ونشر الفضيلة. وهذا يقتضي مشاركة البشر جميعا في منع الحرب والعدوان، وتعزيز أسباب السلم والعمران. الشراكة مع العالم هي المفتاح الذهبي للخلاص من التنافر بين موروث متخيل وعالم نتصوره آثما وبغيضا.