يثير الحديث عن نقد الموروث الديني عاصفة من ردود الفعل المتناقضة، تكشف عن فوضى منهجية تسيطر على ساحات النقاش، خصوصاً في الفضاء الرقمي.
تكمن جذور هذه الإشكالية في الخلط المفاهيمي الأولي بين الدين والموروث الديني. فالدين يمثل الثوابت العقدية والنصوص الأصلية التي يُعرّف المرء نفسه بالانتماء إليها، بينما الموروث هو ذلك المنتج البشري المتراكم عبر التاريخ، شاملاً الفقه، والتاريخ، وعلم الكلام، وهو بطبيعته نتاج بشري، قابل للأخذ والرد، ومرتبط بظروفه.
إن إخضاع هذا المنتج البشري للمساءلة النقدية ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة لفهم الحاضر. ولعل السجال الدائر حول تصريحات الشيخ الدكتور محمد العيسى بشأن تهنئة غير المسلمين، يقدم مثالاً راهناً وعملياً على هذا التداخل؛ فحين يشير العيسى إلى غياب النص القطعي بالتحريم، فهو يعيد رسم المساحة الفاصلة بين الحكم الشرعي المؤسس على نص (الدين)، وبين الموقف الفقهي الذي شكله سياق تاريخي أو اجتماعي معين (الموروث).
وهنا تحضرني تجربتي الشخصية بحكم إقامتي في الولايات المتحدة؛ إذ ألمس بوضوح كيف يبادرنا الآخرون بالتهنئة في أعيادنا ومناسباتنا، في سلوك حضاري يندرج ضمن اللطف الاجتماعي والتعايش، دون أن يعني ذلك بحالٍ من الأحوال إقراراً منهم بصحة معتقدنا أو تخلياً عن معتقداتهم. هذا الفصل الدقيق بين المجاملة الاجتماعية والولاء العقدي هو ما يحتاج العقل الفقهي التقليدي إلى استيعابه ضمن متغيرات العصر.
فسواء تعلق الأمر بقراءات تاريخية كأحداث الفتنة الكبرى، أو بأحكام فقهية تفصيلية، فإننا نتعامل مع اجتهادات بشرية تستدعي المراجعة. إلا أن الفارق الجوهري بين الإصلاح في سياقنا الإسلامي وسياقات أخرى كالمسيحية، هو أن الإسلام ديانة تشريعية، مما يجعل نقد موروثها الفقهي أكثر تعقيداً وحساسية.
وهنا تكمن جدوى النقد؛ فهو لا يتعامل مع الماضي بوصفه تاريخاً منتهياً، بل بوصفه حاضراً ممتداً. فالموروث ليس مجرد نصوص في بطون الكتب، بل هو بنى ثقافية واجتماعية لا تزال تشكّل وعينا الجمعي، وتتدخل في تنظيم حياتنا المعاصرة، من منظومات القيم إلى قوانين الأحوال الشخصية.
وعليه، فإن مراجعة هذا الموروث ليست هدماً للماضي، بل هي ضرورة لتحرير الحاضر. فلا يمكن بناء مشروع نهضوي حقيقي يستجيب لتحديات العصر، بينما لا نزال أسرى التأويلات.
لكن، لا تكمن الإشكالية في مشروعية النقد ذاتها، بل في غياب المنهجية الواضحة التي تحكمه. لقد تحول النقاش إلى سجال سطحي تضيع فيه الأصول وتُستهلك الطاقات في الفرعيات. فكثيراً ما يُبنى النقد على أرضية هشة، كالانطباع الذاتي والرفض العقلي المجرد، أو يُواجه بسلطة مغلقة تكتفي بالتحريم والإجماع.
يغيب عن هذا المشهد التفريق بين المعلومة التي يجب أن تكون صحيحة وموثّقة، وبين التحليل الذي يكتسب صفة وجهة النظر فقط حين يمتلك أرضية منطقية ومنهجاً يستند إليه.
في ظل هذه الفوضى، يتم حرف النقاش عن مساره الموضوعي إلى الشخصي. فسؤال «من أنت لتقول؟» هو سؤال خاطئ في بنيته وتفصيله؛ لأنه يهرب من مواجهة السؤال نفسه إلى مهاجمة السائل. الصواب هو التركيز على بنية السؤال ومقدماته، فمشروعية النقد، حتى من غير المتخصص، تكمن في قدرته على كشف التناقضات وطرح الأسئلة المشروعة.
إن نقد الموروث، لكيلا يكون مجرد موضة عابرة أو صراعاً بين العقلانية والنص، يجب أن يتحول إلى مشروع إصلاحي نهضوي. هذا المشروع لا يبدأ بالرفض العاطفي، بل يتطلب أولاً تأسيساً معرفياً يسلّح الناقد والقارئ بالأدوات اللازمة، وثانياً، وهو الأهم، بلورة منهجية تفكير واضحة، تفسر مرجعية التساؤل وتضبط بوصلة النقد.
