تمنحنا نهاية كل عام فرصة لمراجعة ما وصلنا إليه وإلى أين نرى عالمنا متجهاً. لقد اعتدتُ أن أستغل هذه اللحظات في التأمل، محاولاً مراقبة الصعود والهبوط، والتغيّرات الجوهرية، وأهمية العام في ختامه. بالنظر إلى ما فكرتُ فيه وكتبتُ عنه هذا العام، الموضوعات المتكررة كانت الفوضى والارتباك، حاجتنا إلى التعاطف والتسوية، وبالطبع الذكاء الاصطناعي. هناك شعور اليوم بأن البشرية تقف عند مفترق طرق، تواجه خياراً بين التعاطف واللامبالاة، بين الحقيقي والمصطنع، بين التعامل مع الفوضى والعمل معاً من أجل السلام والاستقرار.
ربما أكون قد كشفتُ حكمي مسبقاً. ومن الممكن أيضاً أن يكون عمري واضحاً. على مدار حياتي الطويلة، شهدتُ اتجاهاتٍ رئيسيةً وتحولاتٍ كبيرةً تحدث داخل مجتمعاتنا، وكذلك داخل المجتمع الدولي. لقد حققنا، مجتمعين، تقدماً هائلاً في جودة الحياة وفي الحد من الفقر ووفيات الأطفال خلال القرن الماضي. وفي الوقت نفسه، تلاشت المراسي والروابط العائلية، والقيم الدينية، والشعور بالتوجه المشترك للبشرية. وعلى الرغم من ارتباطنا الدائم ببقية العالم، فإننا أكثر عزلة من أي وقت مضى.
ومن الاتجاهات الأخرى التي شهدتُها، تجدد الشوق إلى السلطة. فالنخب التي كانت متربعة على قمم السلطة لم يعد يتم تجديد عقود سلطتها بالسهولة ذاتها؛ بل أصبح عليها أن تقاتل من أجل السلطة. ونتيجة لذلك، أصبح الصراع على السلطة في كل مجال أكثر وضوحاً، مدعوماً بنظرتنا للحياة والعالم بوصفه مجالاً خاضعاً لسيادتنا. فعندما تشيخ حيواناتنا الأليفة، نذهب إلى الطبيب البيطري لإنهاء حياتها. ونجبر آباءنا على توقيع إقرار «لإيقاف العلاج» في حال مرضوا وعجزوا عن التواصل. وفي أفريقيا، يوزّع الغربيون الحيوانات الذكور على حدائق السفاري لخلق نسخة مصوّرة من «البرية»، مع زُمَر من الأسود تحمل أسماء مثل جورج ودوروثي ليُعجب بها الأثرياء. نزعتنا هي السيطرة، وممارسة قوتنا.
إذا لم تكن الطبيعة أو مواردنا الذاتية كافيةً لمنحنا هذه السيطرة على العالم، فإننا نبحث عن أساليب جديدة للسيطرة. فعندما نفرغ البحر من أسماكه، ننشئ مزارع سمكية ضخمة. وعندما تنفد مصادر الطاقة الرخيصة، نحفر بحثاً عن مزيد من الغاز الطبيعي. وعندما نخشى أننا فقدنا ميزة جسدية أو ذهنية على خصومنا، نطور الذكاء الاصطناعي لصنع أسلحة متطورة وآلات قاتلة. هذه هي الغطرسة القصوى للجنس البشري، غطرسة التعطش الدائم للقوة. وقد أفصح بعض كبار رؤساء التقنية وكبار المسؤولين عن سعيهم إلى الخلود الفعلي. ففي كل مجال، نسعى للسيطرة على ساعة الحياة والموت، التي كانت في يوم من الأيام حكراً على خالقنا.
والمفارقة، أنه بينما يزداد اختيار المتنفذين لوضع آمالهم وثقتهم في الذكاء الاصطناعي، تزداد احتمالية أن هذا الذكاء «الاصطناعي» ذاته سيسلب السلطة منهم ومنا يوماً ما. قبل عشر سنوات، أخبرنا خبراء التقنية أننا سنسافر جميعاً بأمان وكفاءة في سيارات ذاتية القيادة اليوم، ولكن في الغالب، نسمع فقط أنها تسببت في قتل شخص ما عن طريق الخطأ. الطائرات المسيّرة والروبوتات والأسلحة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي يفصلها خلل تقني واحد فقط عن توجيه أسلحتها نحونا. ومع ذلك، تسمح القوانين للنخب بممارسة أقصى قدر من السلطة من دون أدنى مساءلة. ولا توجد طريقة أفضل لتوضيح الغطرسة والنخبوية التي نعيشها اليوم.
لقد تطورت غطرستنا أيضاً إلى نقص في التعاطف، مما يؤثر ليس فقط على الأقوياء ولكن على البقية منا أيضاً. فعلى الرغم من توفر الاتصالات والمعلومات الفورية، فإن الحروب المستعرة حول العالم وعشرات الآلاف من الأبرياء الذين يُقتلون بوحشية، بالكاد تظهر على راداراتنا اليومية أو العاطفية. فالحرب المدمرة في غزة لم يكن العالم ليقبل استمرارها لأي مدة قبل بضعة عقود فقط. ولمن يظنون أن تعاطفاً صادقاً قد أُبدي بالفعل تجاه أطفال غزة، أود أن ألفت الانتباه إلى حقيقة مفادها أن رأي أحد لم يتغير بما يكفي لإنهاء الحرب، وأن حرباً أهلية لا تزال مستعرة في السودان حتى اليوم، وتقتل عشرات الآلاف منذ عام 2023. وحتى في الحروب التي يشارك فيها الغرب، أصبحنا بعيدين للغاية عن الدماء المتدفقة من الأجساد، لدرجة أننا نستطيع وضع هذه الحقيقة المزعجة جانباً، حتى رغم وجود الصور.
اليوم فقط، حذّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بكين من «تفكّك النظام الدولي». ومع ذلك، هذا هو النظام الجديد الذي نعيش فيه الآن، إدراكٌ قاتمٌ نختتم به عامنا. إنه نظام من الفوضى والارتباك، بلا تعريفٍ أو نتيجةٍ منشودة. وليس من قبيل المصادفة أن يحدث هذا في وقت فقدنا فيه قيمنا الروحية ومرتكزاتنا، وروابطنا العائلية الممتدة، وإحساسنا بالانتماء إلى قضية أسمى. نحن أحرارٌ في تبرير الصواب والخطأ بما يزيد من قوتنا وسيطرتنا. تُوضع المشاعر والتعاطف جانباً عندما تعترض طريقنا؛ ولم نعد قادرين على وصف الألم أو الحب ببلاغةٍ ومعنى. وبمعنى ما، نحن نصبح أكثر شبهاً بالروبوتات التي نصنعها.
ومع فقداننا لأشكال التوجيه الراسخة عبر الزمن، فقدنا أيضاً كل القيود التي كانت تمنع سعينا إلى السلطة والمكاسب لأنفسنا، أو حتى اتباعنا لشعبويين مشبوهين يعدوننا بها. لقد سبقنا الذكاء الاصطناعي منذ لحظة عجزنا عن تعريف ما هو حقاً أو ما يمكن أن يكون. الذكاء الاصطناعي هو تسمية خاطئة نوعاً ما، لأنه حقيقي.
آمل مع نهاية هذا العام وبداية عام جديد، أن نأخذ جميعاً بعض الوقت للتفكير في أين نحن في حياتنا اليوم؟، وإلى أين يتجه عالمنا؟. إن الصلصال الذي خُلقنا منه بوصفنا بشراً لا يحتوي على أي مكونات اصطناعية؛ بل ينبغي أن يؤسسنا على القيم الراسخة والعناية بأرضنا وكل فرد من ساكنيها. وكما قال ذات مرة المهاتما غاندي: «في اليوم الذي تتغلب فيه قوة الحب على حب القوة، سيعرف العالم السلام».
