قد يكون رحيل أنسي, أحد رواد قصيدة النثر العربية, الحاج قبل أيام قليلة مناسبة لنعيد النظر، أو لنتأمل، في المغامرة الشعرية الكبرى التي بدأها الحاج وزملاؤه توفيق صايغ، ويوسف الخال، ومحمد الماغوط، ونعني بها قصيدة النثر، قبل أكثر من نصف قرن، وهي مسافة زمنية ليست بقليلة في عمر التجارب الأدبية. أين وصلت هذه القصيدة؟ أين الكتب النقدية الجادة التي درست تجارب شعرائها الرواد، والأجيال الشعرية اللاحقة التي خرجت من معاطفهم، أو حاولت تجاوز تجاربهم الأولى التي شابها كثير من التجريب وحتى الفوضى كما في كل مغامرة أولى، خصوصا أنهم خرجوا للتو من موروث صلد ضخم شكل ذائقتنا الجمالية، وأشكال تلقينا للمنتج الأدبي، وربما لا يزال على نطاق واسع، وخصوصا على المستوى الجماهيري.
كانت لرواد قصيدة النثر رؤاهم الشعرية والفلسفية، الغربية المصادر، وخصوصا الفرنسية، وهذه ليست بنقيصة، وحاولوا، خلق تراث مواز لما هو سائد، خصوصا أن قصيدة التفعيلة كانت في ذروتها، بغض النظر عن مدى نجاح بعضهم في تحويل هذه الرؤى إلى نتاج جمالي يمتلك مواصفات الشعر الحقيقي، الشعر الذي يبقى مهما كان شكله الفني، أعمودا كان أم تفعيلة أو قصيدة نثر.
لكن ما حصل بعد ذلك هو نفي مطلق، شكلي، ليس صادرا عن معرفة بل عن جهل، لكل الأشكال الشعرية الأخرى، «وتعصب»، بكل المعنى الحقيقي للكلمة، لقصيدة النثر، هذا إذا لم نستخدم هنا تعبير «ميليشيا قصيدة النثر»، الذي استخدمه محمود درويش. وكلنا يتذكر الحملة الشعواء حقا التي شنها زملاؤنا المصريون على الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي لأنه عبر عن رأيه في بعض من يكتب هذه القصيدة.
وأذكر أن شاعرة قصيدة نثر، تسكن في بقعة عربية محافظة جدا، قالت لي مرة بما يشبه «التقريع»: «كيف تكتب قصيدة تفعيلة وأنت تعيش في لندن؟» جاهلة أن قصيدة النثر لا تزال خجولة جدا في المشهد الشعري البريطاني، بعد أكثر من قرن من انطلاقتها في فرنسا وأميركا، وحتى المصطلح لا يزال غير مفهوم، وأن لا أحد يتساءل عن شكل القصيدة، بل عن الشعر، وإن ذلك، أخيرا، ليس له علاقة بالحداثة من قريب أو بعيد. فالحداثة ليست ترتيب أسطر فوق بعضها البعض، وإنما رؤيا اجتماعية وثقافية وجمالية شاملة.
كان أنسي الحاج يرى أن شروط قصيدة النثر التي يجب أن تتحقق في القصيدة لتكون قصيدة نثر حقا، وليس مجرد قطعة نثرية كما أغلب قصائد النثر اليوم للأسف، هي شروط ثلاثة: «الإيجاز والتوهج والمجانية». أما سوزان برنار، أول منظرة لقصيدة النثر، فتقول إنها «قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من بلور.. خلق حر، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجا من كل تحديد، وشيء مضطرب،، إيحاءاته لا نهائية». وكما يجمع نقاد هذه القصيدة وشعراؤها، فإن لهذه القصيدة إيقاعها الخاص وموسيقاها الداخلية، التي تعتمد على الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها.. إلخ.
وقال تي. إس. إليوت مرة ما معناه إن قصيدة النثر بحاجة إلى شاعر عظيم (كان في ذهنه شارل بودلير على الأرجح).
وقد يفسر هذا قلة شعراء قصيدة النثر الحقيقيين. قد يحتاج الشعراء الآخرون إلى «عكازات»، هي خارج القصيدة، كالوزن مثل الوزن والقافية، كالتفعيلة أو الوزن عموما، والموسيقى تأخذ بأياديهم حين يتوقفون. لكن شاعر قصيدة النثر عار تماما أمام نصه. لا أحد يستطيع دفعه لولوج عالم القصيدة المليء بالألغام غير المنظورة سوى نفسه. ولكن للأسف كثيرا ما تقتل هذا الألغام قسما كبيرا من شعراء قصيدة النثر، الذين يتصورون أنفسهم قد دخلوا أرضا منبسطة خضراء، فيفقدون حذرهم. كل هذا التدفق غير المنضبط، وهذا السفح للعواطف، والعبارة التي تقود إلى أخرى، واستسهال المفردة، واللعب المجاني الذي لا يخلق الغموض الشعري الحقيقي الذي يفرضه المعنى، قاد إلى فوضى هائلة نسميها «قصيدة النثر» التي أصبحت مطية لناقصي الموهبة الذين تحدث عنهم إليوت. والضحية الأولى: شعراء قصيدة النثر الحقيقيون.
7:52 دقيقه
TT
ما الذي فعلته بنا «قصيدة النثر»؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة