د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

أحقَد مِن غُراب

استمع إلى المقالة

وجد البعير منافساً له في حقده الدفين. فقد كشف علماء من جامعة واشنطن أن بإمكان الغربان تذكر الوجه الذي شكل تهديداً لها لنحو خمس سنوات. وهي المدة نفسها التي تُروى عن مدة حقد «سفينة الصحراء». غير أن الغُراب لا يفرق بين الوجه الصديق والعدو فحسب، بل ينبه سائر الغربان إلى ذلك! فقد لاحظ الباحثون، بعد خمس سنوات، ردود أفعال عدائية جماعية لتلك الطيور الذكية تجاه القناع الذي تم ارتداؤه لأشخاص اعتدوا على أحدها.

ولم تسلم من الغُراب حتى رقة قلب المواطن الإماراتي الذي رأى فرخ الغراب على قارعة الطريق فالتقطه ليرعاه في بيته، لكن محاولات إطعامه باءت بالفشل حتى مات. فجن جنون الغراب الأسود الذي طفق يبحث عن ذلك الرجل. بعدما عرف الغراب المنزل، مكث يتحين الفرصة للانقضاض عليه... انتقاماً منه. فغضبت أمه وسائر الغربان فقررت «الانتقام الجماعي»، بمضايقة الرجل كلما خرج من بيته فصارت تتناوب على إيذائه، كما ورد في تقرير متلفز.

الحقد هو كتمان العداوة في القلب والرغبة المُلِحة في الانتقام. وهو كما نعرف نابع من ظلم أو حسد، والأهم أن الحقد قد ينبع من الشعور بالنقص. ولذلك، قد يؤذي البعض الآخرين عمداً أو من دون قصد. وربما المفارقة في الحالة الأخيرة تكمن عندما لا يشعر المرء بأنه حقود، بسبب ضعف في قدراته، أو تربية قاسية دمرت معنوياته وهزت منظومة قيمه فصار يعتقد أن تقدم الآخرين يعني تراجعه، وأن تفوقهم يعني فشله. ولذلك تجد الحقود منشغلاً بالبحث عن أخطاء الآخرين، ويهمز ويلمز في محاولة لتشويه السمعة والانتقاص من مكانة خصمه.

ولن يشعر الحقود بالراحة، وسيساوره قلق دائم. وهذا ما دفع الشاعر عنترة بن شداد إلى قوله: «لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُّتَبُ». وقيل أيضاً إن «الحقد آخر مراحل الفشل».

الحقد ليس مشاعر نفسية عابرة، بل يقف وراء الجريمة الأولى في التاريخ عندما قتل قابيل أخيه هابيل. والمفارقة أن الغراب الحقود هو من علمه كيف «يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ» (أي كيف يدفنه). والمؤلم أن هذه الفاجعة التي سجلت واقعة القتل الأولى، كان وراءها شيء من مشاعر الحقد، ليس على أخيه بل حتى على الغراب. وذلك عندما استكثر على الطائر ما يعرفه من طريقة دفن يجهلها هو كإنسان بقوله: «يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي».

سوف يبقى الحقد إلى أبد الآبدين، لكن يمكن تفادي بعضه بالكثير من الحذر، وشيء من الشفقة على من يشعر بالنقص، خصوصاً إذا كان لسبب خارج عن إرادته.