جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT
20

عندما يفترق الحلفاء

استمع إلى المقالة

بعد ثمانين عاماً من نهاية الحرب العالمية الثانية، يفترق الحلفاء بطلاق بائن، القرار لم يكن متوقعاً بهذه السرعة، رسائل روزفلت وتشرشل وستالين في يالطا، لم تعد صالحة لهذا العصر، تفرقت السبل بين الحلفاء على جانبي الأطلسي «الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا».

جرت مياه كثيرة تحت الجسر، التاريخ لم يعد كما خططه قادة اجتماع يالطا 1945، قدر الجغرافيا الإفراج عن تعهدات التاريخ التي لم تعد مناسبة لثورة الذكاء الاصطناعي.

من الأطلسي ذاته، يأتي الآن نمط جديد في العلاقات لا يخص الأعداء وحدهم، بل يطول الحلفاء أيضاً.

معروف أن الولايات المتحدة ، تدخلت مرتين لمنع أوروبا من الانهيار، المرة الأولى كانت في الحرب العالمية الأولى، أما الأخرى فقد كانت في الحرب العظمى الثانية، وفي المرتين تدخلت في نهايات الحرب، ولم تكن راغبة في خوض أي حروب.

نذكر هنا أن وينستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا آنذاك رقص طرباً وفرحاً حين علم، أن اليابان اعتدت على ميناء «بيرل هاربر»، وأدرك أن أميركا ستدخل الحرب أخيراً إلى جانب الحلفاء ضد النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية، والقومية اليابانية، الأطراف المتحالفة معاً في دول المحور ضد دول الحلفاء الذين كانوا يتشكلون من المملكة المتحدة، وفرنسا الحرة، وبقية أوروبا، إضافة إلى الاتحاد السوفياتي.

كان التدخل الأميركي بالنسبة لتشرشل وضع نهاية لحرب طالت كثيراً، ويجب أن ينتصر فيها الحلفاء، ليشكلوا نظاماً عالمياً جديداً تقوده أميركا، وتضمن أمن أوروبا سياسياً واقتصادياً.

بالفعل، بعد انتهاء الحرب، وانتصار الحلفاء على دول المحور، طرحت أميركا مشروع مارشال الذي بنى أوروبا بالكامل، ومنذ ذلك الوقت صار الحليفان على جانبي المحيط كتلة واحدة، تتبنى الأنماط الثقافية والاجتماعية والسياسية ذاتها، فيما عُرف بالعالم الحر.

تلك الكتلة التي خاضت الحرب العالمية الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، الذي كان شريكاً رئيسياً للدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتحتفل روسيا بتلك الذكرى تحت عنوان «عيد النصر»، لكن المفارقة أن روسيا المنبوذة من العالم الحر، هي التي تعيد الآن ترتيب البيادق على رقعة الشطرنج؛ وذلك لأن أميركا قائدة العالم الحر، والضامنة لأمن أوروبا، قررت أن تدير مفتاح المحرك، وتقود سيارتها في الاتجاه الآخر من الطريق، طريق يقوم على المصالح الوطنية الأميركية الخالصة، لا يستند إلى دبلوماسية القواعد المتعارف عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

فالرئيس الأميركي السابع والأربعون، دونالد ترمب، لا يبالي بتلك القواعد التي يرى فيها خطراً على اقتصاد أميركا في العالم، وأن تلك القواعد ألزمت أميركا بحماية ورعاية المجتمع الدولي؛ ما استنزف قدرتها الاقتصادية والسياسية؛ كونه ينتمي إلى تيار متغلغل داخل المجتمع الأميركي، يسمى «تيار العزلة»، فإنه نفذ آراءه حينما أصبح رئيساً، رافعاً شعار: «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، وبالتالي كانت القواعد الدبلوماسية العتيقة بمثابة حواجز أمام انطلاقه الكبير، لتنفيذ رؤيته السياسية حول العالم.

هذه الرؤية الجديدة، تصطدم الآن بخرائط الحلفاء القدامى في أوروبا، وهم يبحثون الآن عن تكوين جيش أوروبي موحد لحمايتهم، سقطت إشارات الاطمئنان لديهم، واشنطن لم تعد عاصمة الدفء لأوروبا، اختلطت الأوراق، وتغيرت الحسابات، لم تتوقع أوروبا أن ساكن البيت الأبيض سيعيد حفيد القياصرة إلى الواجهة، إنها تراجيديا سينمائية، فصانع السيناريو قرر أن يكتب نهاية غير تقليدية لرواية تقليدية.

موسكو حجزت مقعداً على طاولة نظام جديد، لا تحكمه القواعد والقوانين التي تعارف عليها المجتمع الدولي طيلة ثمانين عاماً، الحليف صار خصماً، والخصم صار حليفاً، تغيرت أماكن البيادق على رقعة الشطرنج، بتوقيت ميونيخ، سمعت أوروبا كلمات واضحة من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، فتحسست رأسها، وعرفت أن الطريق مع الحليف، والتاريخ بات يختبئ فيه الدب الروسي؛ لذا سارعت إلى عقد قمة أوروبية خالصة لتأمين مستقبلها وسط صدام الخرائط المتسارع، وفي أجواء تغيرات لا تستأذن في الدخول إلى القارة العجوز.

وسط هذا الصدام والتصادم والافتراق، ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة: كيف سيكون شكل وجوهر حلفاء الأمس أمام العواصف الجيوسياسية التي تقتلع جذور الأنماط السياسية التقليدية؟

الشاهد، أن خرائط العالم لم تسكن حتى مع نهاية الحرب العالمية، بإنشاء منظمات دولية، وصياغة قانون دولي، وتوقيع اتفاقيات، وسن قواعد دولية، فكان من الطبيعي أن يتصدع جدار هذا النظام الذي لم يكن عادلاً، ولم يستطع تنفيذ قوانينه التي صاغها بنفسه طيلة ثمانين عاماً، والآن يجد العالم نفسه في مفترق طرق بقواعد جديدة، وحلفاء جدد، ومحاور مختلفة، كل يبحث عن مصالحه الذاتية، وأكاد ألمح بأن النظام العالمي الجديد، سيقوم على الدول التي تحيط نفسها بأسوار، وتؤمن بالعزلة، ويكون لديها مفهوم اقتصادي قادر على تأمينها، وتلبية احتياجات رعاياها من دون أن تسقط هذه الدول تحت سطوة دولة أخرى، فهل ستنجح هذه الفلسفة، أم أن مكر التاريخ ربما يقودنا إلى ترتيب بيادق جديدة على رقعة الشطرنج؟

الواقع الآن يتحدث عن نفسه، ويشير إلى أن الحليفين عبر الأطلسي قد توقفا عن الصداقة المزمنة.