إذا اتفقنا على أن الإعلام عامل جوهري، ولاعب أساسي، في الحملات الانتخابية والدعاية السياسية، وإذا قبلنا فكرة أن له تأثيراً واضحاً وقادراً على الحسم أحياناً، في التنافس السياسي، فسيكون من السهل أن نتفهم فكرة «الميديا قراطيا» (Mediacracy).
فما هي «الميديا قراطيا»؟
لقد ظهر مصطلح «الميديا قراطيا» للمرة الأولى عام 1974، عندما أصدر الكاتب الأميركي كيفين فيليبس كتاباً بعنوان: «الميديا قراطيا: الأحزاب والسياسة الأميركية في عصر الاتصالات»، ومنذ ذلك اليوم يُستخدم المصطلح في مراكز البحث والدوريات الرصينة للإشارة إلى نمط الحكم الذي يعتمد على الإعلام بصورة أساسية في صيانة وجوده، وحماية مصالحه، وتحقيق أهدافه.
يمكن تعريف «الميديا قراطيا» ببساطة بأنها «حكم الميديا ووسائلها»، أو هي «الحكم غير المباشر بوسائل الإعلام الجماهيرية، في ظل تغييب المعايير الديمقراطية أو ضعفها، وهي نظام يتوقف فيه الساسة ورجال السلطة عن التفكير في البدائل والسياسات الناجعة، ويكتفون باستخدام وسائل الإعلام لكي تؤمن لهم الشعبية اللازمة، وتُضفي شرعية على حكمهم، أو تقودهم إلى النجاح في الانتخابات العامة، وتصور للجمهور عالماً زائفاً من الفاعلية والثقة والإنجاز».
ويقول ماركوس شميت، مسؤول الاتصال في حزب «البديل» الألماني، وهو حزب «شعبوي» يستخدم شعارات نازية أحياناً، إن حزبه لم يكن لينجح بهذه السرعة في التمركز في الحياة السياسية الألمانية، وتحقيق الاختراقات في الانتخابات العامة، من دون «فيسبوك»، وهو أمر مشابه لما كان الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترمب قاله في 2017 عن دور «تويتر» («إكس» لاحقاً) في حمله إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة، في ولايته الأولى (2017 - 2021).
لكن ترمب، الذي أخفق في انتخابات 2020، عاد لينتصر من جديد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفي هذه المرة، فإن ظهيره الإعلامي الأبرز، وداعمه الأساسي، تمثل في منصة «إكس»، التي سخّرها حليفه إيلون ماسك، منذ اشتراها في 2022، لكي يدعم حظوظه ويؤّمن فوزه.
وفي تعليقه الاحتفالي بـ«النصر العارم»، حرص ماسك على إخبارنا بفكرتين أساسيتين؛ أولاهما أن «المستقبل سيكون مُذهلاً»، وتلك الفكرة بالذات حرص على أن يوضحها في تدوينة أرفق بها صورة صاروخ صاعد، أما الفكرة الثانية، فجسّدها بقوله: «لقد كانت حقيقة هذه الانتخابات جلية للعيان على (إكس)، ففي حين ظل الإعلام السائد يكذب باستمرار على عامة الناس... أنتم الإعلام اليوم».
يحق لماسك أن ينتشي بما حققه في هذه الانتخابات، ويحق له أن يحتفل أيضاً ببلوغ البرهان على أن خطته «المُثيرة للجدل» للاستحواذ على «تويتر» - في صفقة عدّها البعض جامحة وغير مدروسة - حققت النجاح اللازم، خصوصاً بعدما حظيت المنصة التي صار اسمها «إكس» بأكبر قدر من التفاعلات المتعلقة بالانتخابات المثيرة الفائتة.
ففضلاً عن بلوغ عدد المنشورات التي بُثت عبر «إكس» حول تلك الانتخابات ما يقارب المليار منشور، ونحو 2.2 مليون ساعة مشاهدة أو استماع لفعاليات انتخابية مباشرة، فإن عدد مستخدمي المنصة يوم الانتخابات نفسه زاد بنسبة 15.5 في المائة.
فهل هناك أخبار سيئة يمكن أن تزعج ماسك في هذا المضمار إذن؟ الإجابة: على الأرجح لا.
فرغم انسحاب نحو 115 ألف مستخدم من المنصة اعتراضاً على «انحيازها الشعبوي»، وتسخيرها لمناصرة ترمب، بكل ما يعنيه هذا الأخير من معانٍ سلبية لنُقاده وخصومه، ورغم تجميد مؤسسات إعلامية مرموقة؛ مثل «الغارديان»، حساباتها على «إكس»، بداعي أنها دعمت «أفكاراً عنصرية، وروّجت لنظرية المؤامرة»، فإن تلك الخسائر تبدو هامشية، وغير قادرة على زعزعة «اليقين» فيما تحقق من «نجاح».
وكما أدركنا أن ترمب وجد طريقة ناجعة لتحقيق الاختراق في المجالين الإعلامي والدعائي، سواء عبر منصته الخاصة «تروث سوشيال» محدودة التأثير، أو من خلال منصة حليفه ماسك النافذة والفاعلة، فقد أدركنا أيضاً أن هذا الأخير صعد إلى عالم السياسة، ليتمركز في أفضل مفاصله، عبر الباب الكبير الواسع... «منصات التواصل الاجتماعي».
وبالنظر إلى أن كلاً من الرجلين أتى من خارج الدولاب السياسي التقليدي في البلاد، وبلا جذور في الدولة والسياسة «العميقتين»، وبلا حلفاء بارزين في عالم الإعلام المؤسسي، أو «الميديا التقليدية»، فنحن بصدد روافع إعلامية جديدة، ستُدشن على الأرجح عصراً جديداً، أو «ميديا قراطيا» جديدة.
وفي تلك «الميديا قراطيا» الجديدة، سيكون المستقبل «مُذهلاً»، كما قال ماسك تماماً، وستكون جحافل المستخدمين الشرهين للأفكار اليمينية المُتطرفة، ونظريات المؤامرة، وخطاب الكراهية، والنزعات الشعبوية، لاعباً أساسياً ومُحركاً فاعلاً... وهو أمر يطرح مخاطر كبيرة.