بالنظر إلى عناصر مهمته، التي نكاد نعرفها جميعاً، فإن الإعلام صناعة تاريخية بامتياز؛ لأن عمر هذه الصناعة ببساطة يمتد عبر مُجمل قرون التاريخ المنظور، وبلا استثناءات تقريباً؛ إذ ظلت مهام الإخبار والتوعية والتثقيف والترفيه تعمل بلا أي انقطاع، وفي المجتمعات كلها.
فأين الإشكال إذن؟
لقد تنوّعت أساليب إنتاج المحتوى وتعددت وتطورت، كما تغيرت الوسائط التي تنقل المحتوى الإعلامي، ولذلك يمكننا القول إن معظم تاريخ تطور الإعلام ليس سوى انعكاس مباشر لتاريخ تطور تكنولوجيا الوسائط، التي استخدمها لإنفاذ مهمته وإدامة صناعته.
فكل تطور تكنولوجي عالمي في مجال صناعة الإعلام، قادنا إلى إنتاج مواد إعلامية جديدة، وشروط إنتاج مختلفة، والأهم من ذلك، نمط توزيع مختلف، بمستويات متباينة من النفاذ والتأثير.
وبعد الكتابة على الحجر في عديد الحضارات، تم استخدام وسيط جلود الحيوانات، ثم أوراق البردي، وصولاً إلى ظهور المطبعة، التي دشّنت عصوراً متعاقبة من الاختراقات المُذهلة في مجال وسائط عرض المحتوى الإعلامي وتوزيعه.
وبين أهم الإشراقات التي كللت مشهد التطور في صناعة الإعلام العالمية، سيبرز التليفزيون، حين اكتشف العلماء إمكانية نقل الصورة المتحرّكة عبر المسافات، وعرضها على الشاشات، ليشاهدها الجمهور في أجواء بدت مُفعمة بالدهشة والمتعة، للذين عاصروا بداياتها في النصف الأول من القرن الماضي.
كان التليفزيون، مع انطلاقته الأولى، عالماً متكاملاً من الفائدة والمتعة والتأثير، ولأكثر من سبعة عقود كاملة كان هذا الوسيط الإعلامي يعيش عصره الذهبي، خصوصاً عندما انتقلت تقنياته بسرعة فائقة لتعم الكرة الأرضية، وتُغطي معظم أرجائها، وتصل إلى العالم العربي في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات الفائتة، ليضحى التليفزيون، على مر تلك العقود، وسيلة الإعلام الأهم والأكثر نفاذاً وتأثيراً، وبقدرة كبيرة على توليد العوائد، وتحقيق الاستدامة.
فقد فاقت مزايا التليفزيون الكثير من مُمكنات وسائط الإعلام الأخرى، وكان عنصر الاختراق الأكبر بين تلك المزايا يتمثل في مزجه الصوت بالصورة، وبينما ظل لعقود متمتعاً وحده بتلك الميزة الفريدة، لم يتوقف التطوير في مستويات جودة الصورة، وأنماط البث، ونقاء الصوت، بموازاة ظهور أنماط إعلامية جديدة ضمن منتجاته، استفادت من تلك المزايا، وعظّمت حضورها.
لكن يبدو أن التليفزيون بدوره لن يختلف عن غيره من الوسائط الإعلامية، التي نشأت، وازدهرت، وتعاظم تأثيرها، قبل أن يظهر وسيط جديد يخصم من نفاذها ويقتطع من حصصها، وربما يؤخرها في المنافسة، قبل أن يقصيها عن المشهد، أو يضعها في «متحف تاريخ الإعلام».
فكل تقنية تكنولوجية جديدة تنتج وسائط إعلامية جديدة، وكل وسيط إعلامي جديد يقتطع حصته من الوسائط القديمة، وبينما تبقى صناعة الإعلام قائمة على إنتاج المحتوى وتوزيعه، فإن أساليب التلقّي هي التي تحدد مدى قدرة كل وسيط على البقاء والاستدامة.ولذلك، فقد كانت «الإنترنت» عنواناً لعصر إعلامي جديد، ومع تطورها، ووصولها لكل بقعة في العالم تقريباً، زاد الاعتماد عليها باطراد، على مدى أربعة عقود، في إنتاج المحتوى الإعلامي وتوزيعه.
سيفسر لنا ذلك سيادة التليفزيون المُعتمد على البث الأرضي لأكثر من ثلاثة عقود، قبل اكتشاف البث الفضائي وتليفزيون «الكيبل»، وصولاً إلى البث عبر «الإنترنت»، الذي دشّن عصر «الفيديو حسب الطلب»، والمنصات التليفزيونية.
لقد أدى هذا التطور إلى تغير كبير في آليات التلقّي، ومع بروز عصر وسائل «التواصل الاجتماعي»، وتحولها إلى منصة رئيسة لبث المحتوى المرئي، ودخول صُناع المحتوى الجدد، و«المؤثرين»، والهواة إلى عالم إنتاج المقاطع المرئية، فقد التليفزيون «التقليدي» مساحات كبيرة من الاهتمام.
وفي الأسبوع الماضي، جرى الاحتفال بـ«اليوم العالمي للتليفزيون»، وهو احتفال ضروري ومُستحق بذلك الوسيط الإعلامي المتميز والمُهم، الذي أدى دوراً بالغ التأثير في مختلف الشؤون المجتمعية، وحظي لعقود بمكانة فريدة بين الوسائط المختلفة، التي طال تأثيرها مختلف مناحي الحياة البشرية في الدول والمجتمعات كافة.
لكن «لكل شيء إذا ما تم نقصان»؛ فرغم أن التليفزيون «التقليدي» ما زال موجوداً وفاعلاً ومؤثراً كوسيط إعلامي رئيس، ويمكن أيضاً أن تُبنى عليه استراتيجيات إعلامية واتصالية، وأن يحظى بسنوات أخرى من البقاء، فإنه في طريقه للانزواء والتراجع وخفوت الأثر.
فكثير من الإحصاءات والدراسات المُعتبرة المتوافرة تشير بوضوح إلى تراجع نفوذ التليفزيون «التقليدي»، الذي يعتمد خريطة برامجية مُحددة سلفاً بتوقيتات مُلزمة، لمصلحة أنماط أخرى من البث، بعضها يعود لأشكال أخرى من التليفزيون نفسه، وبعضها الآخر يتعلق بمنصات «التواصل الاجتماعي».
يستحق التليفزيون «التقليدي» الاحتفاء بوجوده وبخدماته الوافرة لصناعة الإعلام بكل تأكيد، لكن بقاءه بصورته «التقليدية» تلك ليس مضموناً في العقود المُقبلة.