بالتأكيد ليس هذا الموقف الذي ترغب إدارة بايدن في أن تجد نفسها فيه، قبل أقل من أسبوعين من الانتخابات الرئاسية الأميركية؛ فالضربات الإسرائيلية بالقنابل أميركية الصنع تستمر في محو عائلات فلسطينية بأكملها في قطاع غزة، والحرب في لبنان تتوسع، مع احتمال تصاعد تبادل الهجمات المباشرة بين إسرائيل وإيران.
ومع غضب كثير من الناخبين التقدميين والأميركيين من أصول عربية، والمسلمين، داخل الولايات الحاسمة، من الرئيس جو بايدن، بسبب دعمه الراسخ لإسرائيل منذ هجوم جماعة «حماس» المدمِّر العام الماضي، بحث المسؤولون الأميركيون بدأب عن سبيل لدفع الشرق الأوسط نحو الاستقرار.
بعد ذلك، جاء قتل إسرائيل ليحيى السنوار، زعيم «حماس»، في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، الذي عدَّه مسؤولو بايدن فرصة جديدة، لمحاولة التوصل إلى تسوية سريعة عبر التفاوض لحروب إسرائيل في لبنان وغزة، حيث قُتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الانتخابات، أرسل بايدن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، إلى الشرق الأوسط لهذا الغرض. وكانت زيارته المنطقة هذا الأسبوع، وهي الحادية عشرة له للمنطقة في زمن الحرب، مرتجَلةً على نحو واضح، فقد غادر بلينكن دون مسار واضح، وألغى زيارة كان مخططاً لها للأردن، قبل أن يواصل رحلته إلى المملكة العربية السعودية وقطر، وبشكل غير متوقع، لندن. وهناك، التقى على نحو منفصل، الجمعة، مسؤولين من لبنان والأردن والإمارات العربية المتحدة.
في قطر، أعلن بلينكن أن المفاوضين الأميركيين والإسرائيليين سيعودون إلى قطر قريباً، في محاولة لإحياء محادثات الأسرى ووقف إطلاق النار مع «حماس».
ومع ذلك، سرعان ما تلاشت آمال تحقيق اختراق سريع بعد رحيل السنوار.
وعبر جولاته، لم يعثر بلينكن على أي دليل على أن وفاة زعيم «حماس»، تركت الجماعة أو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على استعداد للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار فوري في غزة، من شأنه أن يحرِّر الرهائن المحتجزين لدى «حماس».
إلا أنه بدلاً من ذلك، طار بلينكن بعيداً عن الشرق الأوسط، الذي يسير بخطوات مترنحة إلى شفا فوضى أعظم ووضع أشد خطورة مما كان عليه حتى في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أو في أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة، سبتمبر (أيلول). والآن، يبدو أن تركيزه تحوَّل نحو التخطيط لإدارة غزة بعد الصراع، الأمر الذي يظل من الصعب تصوره.
وفي حديثه أمام الصحافيين في الدوحة، أعلن بلينكن أن «هذه لحظة لكل دولة لتقرر الدور الذي هي مستعدة للاضطلاع به، وما المساهمات التي يمكن أن تقدمها في نقل غزة من حالة الحرب إلى السلام»، مضيفاً أن الشرط الضروري لإنهاء الحرب في غزة هو «التأكد من أن لدينا الخطط المناسبة».
وإذا كان لدى بايدن ونائبته كامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية للرئاسة، أي أمل في أن تُسكت الأطراف المتحاربة بنادقها قبل الانتخابات الأميركية، فإنه لم يظهر أي مؤشر على أن رحلة بلينكن يمكن أن تمهِّد الطريق لذلك. في الواقع، ليس لدى نتنياهو حوافز قوية لإنهاء أي من الحروب التي يخوضها قبل الانتخابات الأميركية.
من جهتهم، يرى محللون أن الجهود الدبلوماسية لإدارة بايدن طوال الحرب بين إسرائيل و«حماس» مُنيت بالفشل، ببساطة لأن أهدافها كانت تتعارض مع أهداف كل من نتنياهو والسنوار، ولأن بايدن لم يكن على استعداد لحجب الأسلحة عن إسرائيل، بوصفه وسيلة ضغط.
في هذا الصدد، قال نادر هاشمي، أستاذ السياسة في الشرق الأوسط، بجامعة «جورج تاون»: «إن رفض إدارة بايدن الحازم أو عدم رغبتها في وضع حواجز أو خطوط حمراء أمام إسرائيل، أدى إلى توسع هذه الحرب. من الواضح لي أن بنيامين نتنياهو يدرك أنه يمكنه فعل أي شيء يريده تقريباً، ودون أن يتحمل أي عواقب لذلك».
من ناحيتهم، أكد المسؤولون الأميركيون أنهم يقفون إلى جانب حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأن استراتيجية بايدن «عناق الدب»، المتمثلة في احتضان نتنياهو، أدت إلى بعض التحولات، حتى وإن كانت طفيفة، في عملية صنع القرار التكتيكي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، على مدار العام الماضي.
إلا أن تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة، خصوصاً شمالها، تراجع إلى مستويات بائسة، لدرجة أن بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن، أرسلا إلى حكومة إسرائيل تحذيراً مكتوباً، هذا الشهر، بأن هذا الوضع ينطوي على مخاطرة بقطع المساعدات العسكرية الأميركية عنها.
وأمهلت إدارة بايدن إسرائيل حتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني)، لزيادة المساعدات الموجَّهة إلى غزة. وفي سياق متصل، أعلن أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، الجمعة، بينما كان يقف إلى جانب بلينكن في أحد فنادق لندن، أن إسرائيل تقوم بـ«تطهير عرقي»، شمال غزة.
وأشار إلى أن الدبلوماسية فشلت في إحداث فرق حقيقي على الأرض.
وأضاف الدبلوماسي الأردني، موجهاً خطابه إلى بلينكن مباشرةً: «الأمر يزداد سوءاً، للأسف، في كل مرة نلتقي فيها. وذلك ليس بسبب أننا لا نبذل محاولات كافية، وإنما لأن لدينا حكومة إسرائيلية لا تنصت إلى أحد. ويجب أن يتوقف هذا الأمر».
في لبنان، تواصل إسرائيل قصف مواقع «حزب الله»، وتتحدى تحذيرات الولايات المتحدة، وتضرب أهدافاً سكنية في بيروت. وبالفعل، أسفرت الهجمات عن مقتل المئات من النساء والأطفال. وقبل شهر، بعد بدء الهجوم الإسرائيلي في لبنان لتعطيل إطلاق صواريخ «حزب الله»، حاولت إدارة بايدن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكنها أخفقت. ومنذ ذلك الحين، توقفت عن الدعوة إلى وقف فوري للقتال.
إن استخدام إسرائيل قوتها العسكرية -والخسائر المدنية التي رافقت ذلك، بمن في ذلك الشباب الفلسطينيون الذين احترقوا أحياء في الخيام، بعد غارة إسرائيلية قرب مستشفى في غزة- ترك الكثير من الديمقراطيين في حالة من القلق.
وكشفت استطلاعات رأي أُجريت في ولاية ميشيغان الحرجة، عن تعادل بين هاريس والرئيس السابق دونالد ترمب، المرشح الجمهوري. وعبَّر الكثير من الناخبين الأميركيين من أصول عربية هناك، عن غضبهم الشديد إزاء شحنات الأسلحة المتواصلة من إدارة بايدن إلى إسرائيل. ويعتقد بعض الديمقراطيين أن خسارة أصوات الأميركيين أصحاب الجذور العربية، قد تقلب نتيجة الولاية -وربما الانتخابات بأكملها- لصالح المنافس.
في هذا الصدد، قال هاشمي: «ينظر الناخبون العرب والمسلمون إلى هاريس على أنها شخص مفقود الأمل فيه بسبب موقفها من غزة، والآن لبنان. لذلك، سيصوَّت معظمهم لمرشح من طرف ثالث أو سيقاطعون هذه الانتخابات. وقد يصوِّت البعض بسذاجة لترمب بسبب الإحباط».
من ناحية أخرى، عبَّر ترمب، في بعض الأحيان، عن دعمه الكامل لإسرائيل، وقد أقرَّ هو ومساعدوه سياسات مثيرة للجدل خلال إدارته، دعمت مواقف نتنياهو. ومع ذلك، دعا ترمب كذلك إسرائيل إلى «التوقف عن قتل الناس» في غزة.
ومن الواضح أن بلينكن رأى أن موت السنوار سيجعل «حماس» أكثر استعداداً لإطلاق سراح الرهائن، مقابل وقف إطلاق النار.
ويرى بعض المسؤولين الأميركيين أن السؤال الأفضل هنا عمَّا إذا كان نتنياهو قد يكون لديه الآن الغطاء السياسي اللازم، لإعلان النصر وإنهاء الحرب بين إسرائيل و«حماس». وكما قال بلينكن، الخميس، فإن «إسرائيل حققت الأهداف الاستراتيجية التي حددتها لنفسها» بعد 7 أكتوبر 2023.
إلا أن نيات نتنياهو لا يزال يكتنفها الغموض، فهو يخضع للمحاكمة بتهمة الفساد، ويلقي الكثيرون على نطاق واسع باللوم عليه عن الفشل الأمني الهائل لإسرائيل على مدار العام الماضي. في الوقت ذاته، زادت شعبيته أخيراً بسبب عمليات القتل التي نفَّذتها إسرائيل ضد قادة الميليشيات، بمن في ذلك حسن نصر الله من «حزب الله». ويعتقد كثير من المسؤولين الأميركيين أن نتنياهو يرى الحرب وسيلةً للبقاء السياسي.
من جهته، شدد بلينكن على أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستدرسان «أطراً جديدة»، لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. وذكر مسؤولون أميركيون أن ذلك قد يتضمن صفقات مجزَّأة، تقوم على فترات توقف قصيرة للقتال لإطلاق سراح عدد قليل من الرهائن في كل مرة. ومن بين الرهائن المائة وواحد الذين لا يزالون في غزة، من المعتقَد أن الثلث قد قُتلوا.
إلا أنه خلال رحلته، بدا بلينكن أكثر تركيزاً على مرحلة لا تزال تبدو بعيدة المنال: الأمن والحكم وإعادة إعمار غزة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي.
وشرح مسؤولون أميركيون أنه لكي تشعر إسرائيل بالثقة تجاه الانسحاب، فإن نوعاً ما من قوة أمنية -ربما تتكون من وحدات من الجيوش العربية المجاورة- سيكون من الضروري أن يحل محل الإسرائيليين. وسيتعين على طرف ما أن يدفع عشرات المليارات لبدء إعادة البناء في غزة. وقال بايدن ومساعدوه إن السلطة الفلسطينية، التي تتخذ من الضفة الغربية مقراً لها، يجب أن تحكم قطاع غزة، إذا حلَّت قيادة جديدة محل قيادتها المتقدمة في السن -الاقتراح الذي يرفضه نتنياهو.
وفي حديثه أمام صحافيين، قال بلينكن في تل أبيب، إن نتنياهو نفى له بشدة أن الجيش الإسرائيلي يسعى إلى استراتيجية لطرد المدنيين من شمال غزة. ووفقاً لهذه الاستراتيجية، سيحاول الجيش تجويع أو قتل أي شخص يبقى، بوصفهم من أنصار «حماس».
ومع ذلك، فإن المجاعة مستمرة في القطاع منذ أشهر بالفعل، عبر مختلف فئات السكان. والشهر الماضي، تراجعت مستويات تسليم المساعدات إلى أدنى مستوى لها منذ بداية الحرب. ولا يزال عدد القتلى من جراء القصف في ارتفاع، وانتشرت صور المدنيين الفلسطينيين وهم يحترقون في مخيمات اللاجئين على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.